الأزياء والسياسة وفتاوى الجنس.. علاقة تاريخية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 16 سبتمبر 2015 - 4:55 ص بتوقيت القاهرة

قرأت قبل أيام خبرا عن نقابة من النقابات، فرضت على أعضائها من النساء ارتداء ملابس بمواصفات معينة. قرأت أيضا خلال الأسبوع الفائت عددا استثنائيا من الفتاوى الدينية تضاف إلى العدد الهائل من الفتاوى، التى دأب على إطلاقها شيوخ ورجال دين فى السنوات الأخيرة. معظم هذه الفتاوى يشرح ويجيز ويحرم سلوكيات تنتمى إلى قطاع الجنس فى اهتمامات البشر. سمعت كذلك عن زيادة رهيبة فى أعمال تحرش جنسى، وأنشطة مشبوهة جنسيا تمارسها إحدى الجمعيات التى قامت لمكافحة التحرش الجنسى. أهى زيادة فى مستوى الهوس الجنسى عن مستواه المألوف، وهل لهذه الزيادة، إن ثبت وجودها، علاقة بتطور سياسى أو أمنى، مثل حالة النشاط السياسى الاستثنائى المصاحب لانتخابات البرلمان. أم إنها فترة راحة استثنائية فى مسيرة «الإيمان» التى يقال إن الشعب المصرى ينفرد بها بين مختلف شعوب الكوكب؟

***
سؤال تفرع إلى أسئلة عديدة، حملتها جميعا إلى صديق أعرف عن ثقة دقة معلوماته عن المرأة وعلاقاتها بالأمن والمجتمع والدين، وكذلك عن تطور علاقاتها عبر التاريخ بالجنس الآخر.

فاجأنى بإجابة سريعة وموجزة. قال، لا تبالغوا أو تتسرعوا فى الحكم على الناس، فما ترونه طفرة فى التحرش الجنسى ليس أكثر من زيادات مؤقتة فى مستوى «الهوس الجنسى» الذى رافق علاقة الرجال بالنساء منذ أول لقاء لهما عند جذع الشجرة. تتغير طبيعة الهوس وعلاماته وسلوكياته باختلاف ظروف مثل اللغة والثقافة السائدة ونوع النظام الحاكم والحالة الاجتماعية والعلاقة بين الطبقات ومراحل كل طبيعة، ولكن فوق كل هذه الظروف وقبلها، يبرز الدور الذى لعبته عبر التاريخ، مهنة « تفصيل الملابس النسائية»، ومهنة حماية المعتقدات الدينية وطبيعة النفوذ السياسى.

***
راح صديقى يستعين بمقالات أكاديمية وكتب تخصصت فى تاريخ صناعة ملابس النساء. عاد ليقول إن الموضوع يجب أن يبدأ باللحظة التى تدخل فيها «خبير أزياء وموضة» بنصيحة إلى المرأة لتتخلى عن ورقة التوت لصالح قطعة من الجلد أو شبكة من أوراق الشجر مصفوفة بأناقة. يومها وضع أول المبدعين فى مهنة الأزياء القواعد الرئيسية التى حددت بذكاء ما يجب أن يختفى من جسد المرأة عن نظر الرجل، وما يجب أن يظهر له.

عرفت مثلا، أن الترزية الرومان كانوا أول من قرروا إخفاء الصدر، بل إلغاءه تقريبا. اخترعوا ما يطلق عليه Mamillare، عبارة عن رباط أقرب إلى شكل الحزام العريض، يتكون من طبقات عديدة من القماش، تلف الصدر وتضغط بشدة تكاد تغيبه تماما عن الأنظار. ثم جاء أحفاد هؤلاء الترزية من الفرنسيين والإيطاليين فاختاروا «موضة» لملابس النساء، تكشف عن أغلب الصدر. حدث هذا فى القرن السادس عشر، وهو القرن الذى شهد اختراع «السلة». كانت هذه السلة الواسعة التى كانت تحيط بالنصف الأسفل من جسم المرأة، تكسوها فساتين عريضة وواسعة. اعترف كبار ترزية ذلك الزمن، بأن الهدف كان تمييز الأغنياء عن الفقراء فى المجتمع.

اخترعوا أيضا، الكورسيه، وهو جهاز يصنع من مزيج من النسيج مع عظام الحوت ليحيط بالجسم فيمنع ترهله، واخترعوا للرجال بناطيل ضيقة للغاية موحية للجنس الآخر. كانت هذه البناطيل تشتد ضيقا مع المكانة السياسية لمن يرتديها، وتلتصق بالجسد وتفاصيله إذا كانت من نصيب الملك ومستشاريه.

***
سمعنا وقرأنا عما يسمى بحزام العفة، وصل إلينا فى كتب الحكايات وبعض قصص التراث الثقافى، وكتب عنه أوروبيون زعموا أن ملوك أوروبا من الذين كانوا يتغيبون عن زوجاتهم معظم أيام السنة فى الحروب، كلفوا حدادين بالتعاون مع ترزية النساء بتفصيل حزام حديدى يؤدى مهمة الحفاظ على العفة. أخشى أن يكون أكثر أبناء الجيل الذى انتمى إليه اعتقدوا فى وقت من الأوقات بصدق هذه الرواية. الآن هناك من يؤكد أن الرواية قطعا زائفة، وإن أحدا لم يجرب هذا الحزام فى الشرق أو فى الغرب. يقول Albrecht Classon الأستاذ بجامعة أريزونا، إنه دار على المتاحف فى أغلب بلاد العالم باحثا عن نموذج واحد حقيقى لهذا الحزام، فلم يقابله سوى نماذج رمزية أغلبها استخدم لأغراض السخرية والمسرح الشعبى. يؤكد أن انتشار هذه الرواية دليل دامغ على الهوس الجنسى لدى الرجال، ملوكا كانوا أم رعايا.

***
فى ثنايا هذا التاريخ الممتد للعناصر التى ساهمت فى تنمية «الهوس الجنسى»، يبرز بين أهم العناصر دور بعض رجال الدين والمشرعين منذ قرون عديدة، هؤلاء جعلوا رسالتهم وسبب وجودهم تقييد حرية الجنس وتشويه سمعته. يضرب الباحثون المثل بمفتش شرطة الأداب الإنجليزية Anthony Comstock الذى قاد حملة ضد الجنس فى عصر الملكة فيكتوريا. قيل إنه اصطحب معه إلى بيت دعارة فى لندن كبار المشرعين ورجال القانون، لإقناعهم بالموافقة على مشروع القانون الذى أعده لتقنين الجنس ومكافحة ظاهرة ارتداء ملابس غير محتشمة.

تقول الرواية، إن المشرعين دخلوا إلى المكان، بدون تردد أو خجل وكانت السعادة بادية على وجوههم طوال الزيارة، ولكن ما أن خرجوا إلى الشارع، عاد الكره والحقد إلى وجوههم، وراحوا يتزاحمون للتوقيع على مشروع القانون، وبالفعل صدر القانون المعروف دوليا باسم مؤلفه بإجماع المشرعين.

***
اتفق مع الرأى القائل، إن التقاليد فى كل المجتمعات هى التى تضع القوانين المقيدة للحريات الجنسية، وأستطيع أن أؤكد أن أغلب التشريعات الاجتماعية كانت على مر التاريخ ضد المرأة، بمعنى أنها تتحمل فى الغالب عقوبة الخروج عن هذه القوانين وليس الرجل. بل إننا نعرف أن المجتمع مازال يعتبر المرأة، ضحية التحرش أو الاغتصاب، مسئولة بشكل أو بآخر، وإن الرجل غير مسئول فعليا. المسئولية تحملها المرأة بحجة ملابس ترتديها أو مساحيق تتجمل بها أو جسم سعت طويلا ليكون رشيقا وجميلا، وهذا حقها بل أكثر من أن يكون حقا للرجل.

أغالى قليلا فأقول، إنه ربما كان لتقنين الجنس ومكافحته وإصدار التشريعات التى تسئ إليه وتشهر به، دور وفائدة لدى الساعين إلى السيطرة والنفوذ، سواء فى النقابات الفنية أو المجالس التشريعية أو فى دوائر الدولة أو مؤسساتها الحاكمة، أو وهو الأهم من وجهة نظرى فى بعض الدوائر الدينية، تعجبت دائما، ومنذ بداية اهتمامى بشئون المجتمع المصرى، بهذا الهوس الذى يصيب عادة بعض رجال الدين، كلما أتيحت لهم فرصة الظهور فى شاشات التليفزيون أو على منابر الخطابة والنصح والإرشاد أو استجابة لأسئلة وطلب نصائح وإرشادات. لماذا هذا الإصرار الغريب، بل المشبوه، على الإفاضة فى إرضاع الكبير ونكاح الموتى والحيوانات وزنا المحارم؟ هل رسخ فى عقول هؤلاء الشيوخ أن جماهير الشعب تمارس هذه الرذائل فلابد من توعيتها، أم رسخ فى عقولهم أن جماهير الرعاع والغوغاء تحب الاستماع إلى هذه الفتاوى، لتروج لها وترددها وتنشرها بين الاتباع، الأمر الذى لاشك يعطى أهمية لصاحب الفتوى قوة ونفوذ لدى السلطة السياسية الحاكمة، وبعد قليل، يطالبها باقتسام الحكم وحق التوجيه والإرشاد وتلقى الأموال. نعرف أن هذا يحدث فعلا فى عديد الدول الإسلامية وحدث فى عصور التخلف الدينى فى أوروبا.

***
طلبت من زملائى الاهتمام بمؤتمر الفتاوى الذى عقد أخيرا فى القاهرة، وضم العشرات من أعاظم الفقهاء وقادة الدين الإسلامى، عادوا جميعا يؤكدون أن هذا المؤتمر رفيع المستوى والمتخصص فى تحسين صورة رجال الدين وتطهير قطاع الفتاوى من فتاوى تسئ إلى الدين وتفسد المجتمع وتدمر ضمائر الشباب وتؤسس فيهم الشعور بالذنب، هذا المؤتمر الحاشد لم يأتِ على ذكر فتاوى الجنس رغم انها تمثل النسبة الأعلى من الفتاوى. لمصلحة من عدم التعرض لهذه الفتاوى ورفض التعامل العلنى والشفاف مع حالة الهوس، والاستمرار فى السكوت عن ممارسات وفتاوى نشر الكره للمرأة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved