الشعر زينة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 16 سبتمبر 2017 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

مات القمر. غرق فى البحر. وشعرها الفضى منسدل على كتفيها. متى بدأت تطلق على نفسها عجوزا؟ ربما سأشبهها عما قريب أو بعيد.. لا فرق عندى.. فقد تعودت على وجود بعض الشعرات البيض، فى رأسى، منذ أن كنت فى السادسة عشرة من عمرى. لذا طالما أضحكتنى عبارات مثل «خط الشيب رأسه» و«هرم وابيض شعره»، إذ فهمت مبكرا أنها لا تعنى أى شىء، وأن الوقت لا يمر علينا جميعا بالوتيرة نفسها، وأن دقات الساعة ليس لها الوقع ذاته على الأشخاص، فالإحساس بالزمن والعمر يختلف. 
هناك من يتحدث عن استعداداته للطلوع على المعاش وقرب موعد ذلك وهو لايزال فى الخمسينيات، ويشعر فى مكان ما، طوال الوقت بداخله، أن حياته القصيرة شارفت على الانتهاء وأن مسيرته قد كللت بالفشل أو بالنجاح. وهناك من يعيش بعمق وحماسة واندفاع حتى آخر لحظة، مستبشرا دائما ببدايات جديدة، مهما غزاه الشيب ومضى الزمن وهو فى مكانه.

***
أثار لدى مثل هذه الأفكار حول هالة الشعر الأبيض التى تحيط برءوس البعض منا، بحكم الوراثة، وموقفهم منها، خبر صدور كتاب بالفرنسية، فى نهاية أغسطس الماضى، بعنوان «ظهور» (Une apparition) للصحفية التى عملت طويلا فى مجال الموضة، صوفى فونتانيل. ترصد هذه الأخيرة بين ضفتى الكتاب تجربتها الشخصية منذ أن قررت فى سن الثالثة والخمسين أن تترك شعرها على سجيته، دون صبغات طبيعية أو تلك التى تحتوى على مواد كيماوية. صار ناصع البياض، موحيا براحة مع الذات، دون أدنى رغبة من طرفها فى الوقوف على آراء الآخرين، رجالا ونساء، فعادة ما ينظر للشعر الأبيض لدى الرجال على أنه لمسة احترام وجاذبية، أما بالنسبة للنساء فيعد علامة، قد لا تغتفر، على الإهمال والكبر. وكأن الأشياء عندما يزول لونها قد حكم عليها بالإعدام أو صارت دون فائدة منها ومصيرها سلة المهملات كالملابس القديمة البالية التى فقدت زهوتها بسبب الغسيل المتكرر. لون الجلد والشعر أيضا تنطبق عليه القاعدة نفسها، فهما يتعرضان لعوامل الزمن والتعرية، يتغير لونهما بالوراثة والتقادم، فيبيض الشعر وتظهر البقع الداكنة على البشرة أو تفقد نضارتها بطرق مختلفة. وكأن مرحلة فقدان اللون وتغيره تدريجيا ــ تلك المرحلة الرمادية ــ ما هى إلا منطقة وسيطة قبل الانتقال إلى البياض الكامل الذى يفضى إلى الموت... هكذا كان يفكر اليونان قديما، وهكذا ظل البعض ينظر للأمور فانتعشت سوق الصبغات والرغبة فى إخفاء هذا البياض، فى التحايل عليه والتمويه.
***
من الصعب بالنسبة للكثيرين التعامل مع العمر ومع التغيرات التى تصاحبه بوصفها جزءا من تحولات الكون وبوصف الفرد علامة من علامات الزمن. ورقة شجر تذبل ويصفر لونها وتقع من على الغصن لتحل أخرى محلها. من الصعب عليهم أن يقولوا مثل الرسام والحفار اليابانى هوكوساى الذى عاش طويلا وتوفى سنة 1849: «بدأت فى رسم الأشياء وأنا فى السادسة. فى سن الخمسين، كان لدى بالفعل العديد من الرسومات، لكننى أعتقد أن كل ما رسمت قبل السبعين لا يعول عليه، لأننى استوعبت فى عامى الثالث والسبعين فقط تكوين الطبيعة بعناصرها: العشب والأشجار والأسماك والطيور والحيوانات والحشرات. وبالتالى أرى أننى أحرزت تقدما فى سن الثمانين، أما فى التسعين فأصبح فى مقدورى الولوج إلى جوهر الأشياء. ربما عندما أبلغ العام العاشر بعد المائة سيكون كل خط أرسمه حيا عن جد»، لكنه مات فى التسعين، وهو ممسك بريشته، وقد خلا رأسه من الشعر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved