(تليفزيون الواقع) المرير

خالد محمود
خالد محمود

آخر تحديث: السبت 16 أكتوبر 2010 - 10:29 ص بتوقيت القاهرة

 أصبح ما يسمى بتليفزيون الواقع أبشع من الواقع نفسه. فقد تحول من مجرد وسيلة ترفيهية واستثمارية جاذبة لبعض فئات الشباب، الذين يهوون ممارسة حياتهم على الهواء واطلاع الآخرين على هواياتهم وأفكارهم إلى وسيلة صادمة تحمل الأخبار المأساوية واستعراض السلوك الإجرامى، ولن تخجل القنوات التليفزيونية، التى تعيش على برامج الواقع من بث الأخبار المؤلمة والقاسية لمن يشاركون فى البرنامج على الهواء مباشرة دون مراعاة لأى خصوصية أو رد فعل.. فقط ما يهم أصحاب القنوات هو الاستحواذ على أكبر كم من المشاهدين والترويج باستغلال المشاعر.
وما حدث على شاشة التليفزيون الإيطالى مؤخرا كان أكثر من حادث إعلامى مؤسف ومؤلم، بل وجريمة بشعة بكل المقاييس، ففى إحدى حلقات البرامج الواقعية، التى تعتمد على نسبة مشاهدة كبيرة وعلى الهواء مباشرة فوجئت كونشيت ــ امرأة إيطالية تشارك فى الحلقة ــ باتصال أحد رجال الشرطة بها أثناء البرنامج ليخبرها بالعثور على جثة ابنتها المفقودة منذ شهر مقتولة بيد عمها بعد أن اعتدى عليها جنسيا.. الخبر الصاعقة وقع على الأم أمام اكثر من 5 ملايين مشاهد ليتحول إلى حديث المجتمع فى دقائق معدودة.. لم تستوعب الأم الخبر فى البداية.. لم تصدق أن ابنتها قتلت واغتصبت على يد عمها.. هكذا بدت نظرة عينها التى توقفت أمام الكاميرا.. صمتت طويلا ثم صرخت.. وانهارت.. كل ذلك أمام ملايين المشاهدين، الذين تابعوا رد فعل الأم لجريمة العم.. لم تتحرك مشاعر ولا أخلاق أصحاب القناة ومسئولى البرنامج ولم يهتز لهم ضمير بقطع الإرسال الهوائى بفاصل إعلانى حتى يدرسوا الحالة أو حتى يقدروا بعدها كيف سيتصرفون، وإن كنت أرى أن التصرف الصحيح ليس فقط وفقا لمقاييس الشرف الإعلامى، بل ووفقا لمعايير الشرف الأخلاقى والإنسانى أن توقف القناة بث برنامجها حتى لا تثير جدلا كبيرا ورعبا بين المشاهدين من بشاعة الجريمة النكراء، التى أصبحت سائدة فى مجتمعات عديدة، لكن التليفزيون الإيطالى استغل الموقف لأقصى درجة حتى يحقق مزيدا من الانتشار، وهم على جانب آخر تعاملوا مع الجريمة على أنها مجرد لعبة فى إطار برنامج تسلية، حتى لو كانت اللعبة بهذه الدرجة من القسوة والمرارة.

إن تليفزيون الواقع ــ بهذه التجربة ــ تجاوز كل الخطوط الحمراء من باب السبق الإعلامى، وأعتقد أن مثل هذه الأحداث ربما تتكرر بشكل أو بآخر، ولكن هذه المرة ربما تكون من باب تحقيق الشهرة والرواج للجانى، وما نتخيله اليوم ربما يصبح واقعا فى الغد ونرى أحد الأصدقاء أو الأقارب أو الجيران أو المنافسين لأحد ضيوف برنامج تليفزيون الواقع يرتكب جريمة ويخبره بها على الهواء وأن يصرح بطلباته أمام الملايين!

وتتسع دائرة سخونة الأحداث على الهواء وستراها قنوات الواقع فرصة أكبر لمزيد من الإعلانات والمشاهدين.. وسأراها أنا مزيدا من البجاحة واستثمار المشاعر والأحاسيس وانقلاب ميزان الجريمة الاجتماعية بتسليط الأضواء عليها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved