تلميذ إسرائيل النجيب

رابحة سيف علام
رابحة سيف علام

آخر تحديث: الثلاثاء 16 أكتوبر 2012 - 8:05 ص بتوقيت القاهرة

«أنا من الداخل بمدينة حمص أهدى سلامى إلى أخى أحمد وعائلته فى مخيم كلس بتركيا، وأخى نزار وعائلته فى مخيم الزعترى بالأردن، وأخى أبوطارق وأولاده بالقاهرة، وإلى خالتى فتحية وأولادها فى طرابلس بلبنان، وأولاد عمى مصطفى فى حماة، وأولاد عمى حسان فى العراق، طمنونا عنكم، نعلمكم أن ابن أختى عبدالرءوف استشهد قصفا فى الخالدية، وابن خالتى سمير استشهد قنصا، وبنت عمتى رنا رزقت بتوءمين ذكرين، اطمئنوا وطمنونا وإن شاء الله بترجع حمص متل الأول وأحسن وبترجعوا إلها.. ناطرينكم».

 

عند قراءتى لهذه السطور انفطر قلبى وتساءلت كيف تحول نظام يدّعى مقاومة الاحتلال الاسرائيلى إلى تلميذ نجيب لهذا الاحتلال ينافسه فى القتل والتشريد وتحويل من بقى حيا من شعبه إلى لاجئين فى دول متفرقة. بالفعل الثورات تُسقط الأقنعة، هذه حقيقة تم إثباتها عمليا فى عدة بلدان عربية شهدت ثورات، ولكنها منطبقة بشكل مذهل على الحالة السورية. ففى معرض سعيهم لإسقاط النظام المستبد، أسقط السوريون العشرات من الأقنعة عن مدعى نصرة حقوق الإنسان والمقاومة والممانعة، لاسيما قناع «النظام الممانع». حقيقة أخرى سطرها ابن خلدون فى مقدمته لعلم الاجتماع وهى «أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب»، وعليه فإن نظام الأسد أثبت من خلال تعامله مع ثورة الشعب السورى أنه حقا «مولع بالاقتداء» بإسرائيل فى تعاملها مع الانتفاضات الفلسطينية المتتالية.

 

●●●

 

فقد اعتمد نظام الأسد أساليب عسكرية وسياسية ودبلوماسية تحاكى الأساليب الإسرائيلية فنجح نجاحا باهرا تماما كإسرائيل فى الإفلات من العقاب والتلاعب بمنظومة المواثيق الدولية على الرغم من عشرات المجازر وجرائم الحرب والسلم التى ارتكبها. فعسكريا تعمد النظام ملاحقة النشطاء السوريين واعتقالهم أو اعتقال أحد من ذويهم لحين العثور عليهم، فإن تعذر هذا أو ذاك عمد إلى اغتيالهم أو هدم منازلهم فإن انتشرت التظاهرات فى الحى كله، أخضع هذا الحى لحملة من «التنسيق المعمارى» قضت على أغلب مساكنه وخلّفت ساكنيه فى العراء. وبالمثل يستمتع الأسد بمواصلة القصف الجوى للأحياء السكنية وخاصة خلال الليل، فالجيش النظامى السورى تماما كالإسرائيلى يجبن عن تنفيذ عمليات برية قبل أن يسوى المبانى السكنية بالأرض من خلال القصف الجوى.

 

 

فإذا نفدت صواريخه ألقى ببراميل المتفجرات منخفضة الكلفة الصناعية وعالية الكلفة الإنسانية. وإذا نوى اقتحام إحدى المحافظات، حاصرها لشهور وقطع عنها الكهرباء والماء ومنع دخول إمدادات الغذاء والدواء، وإذا كانت محافظة زراعية أحرق حقولها قبل الحصاد أو صوامعها بعد الحصاد. ثم يقتحم أطرافها ويتمركز على هضابها لتوجيه ضربات المدفعية إلى نقاطها الحيوية خصوصا الأسواق والأفران فى وقت الذروة لتعمد إسقاط أكبر قدر من الضحايا. فإذا تمكن من التغلب على كتائب الجيش الحر ودخل الأحياء سلّط مجموعاته المسلحة «الشبيحة» لارتكاب مجازر وترويع الأهالى فيعيد إنتاج سلاح الخوف من جديد. وبالمثل يتقاسم الاحتلالان الاسرائيلى والأسدى المتعة ذاتها فى استهداف دور العبادة والطواقم الطبية والصحفيين سواء الأجانب أو المحليون. فإذا افترضنا أن الاحتلال الاستيطانى وحده هو الذى يستهدف التراث ليمحو الذاكرة الوطنية، نجد أن الاحتلال الأسدى يتفوق فى ذلك أيضا ويحرق سوق حلب التاريخى ويتخذ من الحصون التاريخية مواقع عسكرية يقصف منها على رءوس الآمنين دون تردد أو مبالاة، فكيف لمن قتل البشر أن يأسف على الحجر.

 

أما سياسيا، فلا يشذ الأسد عن وصفة معلمه الإسرائيلى، ففى البداية يعمد إلى الإذلال والاغتيال المعنوى لبعض رموز المعارضة كى ينفضّ الناس عنهم ويفقدوا الثقة فى قياداتهم. ثم يستخدم فزاعة الإرهاب بحق النشطاء من أجل شرعنة تصفيتهم وملاحقتهم بالاعتقال والتعذيب، ثم يدّعى رغبته فى الحوار والتفاوض ولكنه «للأسف» لا يجد من يُفاوضه فى ظل تشرذم المعارضة.

 

وعلى صعيد السياسة الخارجية، وعى الأسد جيدا درس إفلات اسرائيل من العقاب، فعمد إلى المراوغة عبر الوسائل الدبلوماسية للتملص من استحقاقات المراقبة الحقوقية الدولية. فاحتمى بعملاق دولى يملك مقعدا دائما فى مجلس الأمن، أو بالأحرى مقعدان، كى يتولى الدفاع عنه دوليا ويبرر جرائمه المتتالية. فأثمر ذلك تعطيلا مدهشا لمجلس الأمن عن إدانة نظام الأسد أو التدخل تحت الفصل السابع أو التحرك باسم المسئولية فى الحماية. فإذا شُل مجلس الأمن تم التوجه لمنظمات ومجالس حقوق الإنسان، فيكتبون التقارير التى تناشد النظام وقف جرائمه أو إرسال المراقبين الذين يعجزون عن المراقبة أو إعلان هدنة ينتهكها النظام السورى فور إطلاقها. ثم يتحولون إلى الجيش الحر لمناشدته الكف عن استخدام الأسلحة غير الدقيقة، وكأنه وجد الأسلحة الدقيقة وعزف عن استخدامها.

 

ودوليا أيضا يظهر جليا التماهى بين الاحتلالين الإسرائيلى لفلسطين والأسدى لسوريا، إذ تكيّف المجتمع الدولى مع ديمومة الدم النازف وحركة النزوح المستمرة واكتفى بتمرير المساعدات الإنسانية أو نصب الخيام لللاجئين. وحتى كلمة «مجزرة» فقدت مدلولها سوريا كما فقدته من قبل فلسطينيا، فانهيار بنايات كاملة على رءوس ساكنيها جراء القصف العشوائى على الأحياء السكنية صار خبرا شبه روتينى فى نشرات الأخبار لا يختلف فيه سوى مكان القصف وعدد الشهداء. وكما لم تسلم فلسطين من بورصة المتاجرة الدولية والإقليمية بدماء الشهداء، كذلك الحال بالنسبة لسوريا. إذ تتنافس الدول «الصديقة» للشعب السورى فى تحقيق نجاحات وهمية فى دعم قضيته إما بالتصريح بضرورة وقف الدم أو مطالبة الأسد بالتنحى دون أن تقدم ما يخفف حقا من المأساة السورية. فحتى الجارة التركية لم تكن لتقدم على تحريك مقاتلاتها أو جنودها على الحدود لولا محاولات الأسد تصدير الأزمة لأراضيها، فإن بقت الأزمة فى الأراضى السورية، انتفى سبب التصعيد الحدودى.

 

●●●

وحدهم السوريون يتجرعون مرارة هذه المآسى بمفردهم، فهم إما نازحون فى الداخل ينتقلون من مناطق خطيرة جدا إلى مناطق أقل خطورة دون أن يحمل ذلك لهم أى ضمان بالأمن أو تلبية احتياجاتهم الأساسية. وإما لاجئون فى الخارج يذوقون مرارتين، التهجير والإذلال من جانب الدول المضيفة، وإما باقون فى مناطقهم يتحدون النظام الغادر بصمودهم أو يخشون مصيرا غير مضمون إذا ما فروا من أرضهم. وإذا كان الحال كذلك، فعلى السوريين أن يدركوا أن الحلول الخارجية لن تسعفهم والتشرذم الذى تشهده المعارضة لن يخدم قضيتهم فى شىء. فإذا كان هدف النشطاء فى مرحلة سابقة هو كشف جرائم النظام من أجل تحريك قضيتهم خارجيا، فالأولى بهم اليوم تحريكها داخليا وكسب المزيد من القوى السياسية والقيادات المحلية على أرضية موحدة تنهى الخلاف والانقسام.

 

 

وإذا كان النشطاء المدنيون يهربون من قبل عبر الحدود خوفا من بطش النظام فعليهم اليوم العودة إلى المناطق المحررة من أجل إدارتها مدنيا. فالجيش الحر ليس بمقدوره القيام بتلبية الاحتياجات الغذائية والطبية فى ظل تنامى عبء القتال، فضلا عن الزحف النهائى لتحرير دمشق. باختصار تبدو أبواب الخارج قد سُدت بوجه النشطاء والسياسيين السوريين، فلا بد من فتح أبواب الداخل بالشروع فعليا فى خدمة السوريين تماما كما يفعل الجيش الحر بتقديم خدمة الدفاع. فإذا كان هؤلاء السياسيون يطرحون أنفسهم بديلا للنظام، فيجب أن يمارسوا فى الحال مهام الحكومات فى خدمة شعوبها وألا يعولوا على وعود المساعدة الخارجية التى لن تأتى. ففى النظم الديمقراطية يحكم السياسيون مدنا صغيرة قبل أن يرتقوا عبر الانتخابات إلى حكم الدول، وربما يتعين على السياسيين فى زمن الثورات أن يدبروا شئون المدن والقرى الصغيرة قبل أن يصافحوا الدبلوماسيين الأجانب فى مؤتمرات دولية.

 

فإذا كان للسوريين أن يتعلموا شيئا من الدرس الفلسطينى كما تعلم الأسد من إسرائيل، فهو أن المساعدات الخارجية قد تأتى بالغذاء والدواء وخيام اللجوء ولكنها لا تأتى أبدا بما يُزيل أسباب الاحتلال، بل تسعى دائما للاستقرار حتى وإن كان هذا الاستقرار مُتكئا على جماجم الأطفال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved