متى تنجح الثورة المصرية؟

عبد الفتاح ماضي
عبد الفتاح ماضي

آخر تحديث: الأربعاء 16 أكتوبر 2013 - 9:35 ص بتوقيت القاهرة

تاريخيا، نجحت الثورات الكبرى عندما قام الثوار بتغيير نمط ممارسة السلطة وتمكين الجماهير من المشاركة فى السلطة. ففى انجلترا وفرنسا نجحت الموجات الثورية عندما انتقلت السلطة (والتى تعنى ببساطة صنع القرارات والسياسات التى تنظم شئون جميع قطاعات المجتمع بما يحقق المصلحة العامة وأولويات المجتمع) من نمطها القديم إلى نمط جديد تماما، أى عندما انتقلت السلطة من يد فئة صغيرة (كانت تعمل لمصالحها الضيقة) إلى طبقات متعددة من الشعب (التى صارت تعمل لأجل فئات أوسع من المجتمع سياسيا واقتصاديا).

•••

حدث هذا من خلال أمر أساسى هو إقامة المؤسسات التى كانت وظيفتها تقييد سلطة الحكام بالدستور والقانون، وحماية حريات الناس، وتمكينهم من المشاركة. وقد تم ذلك عن طريق قيام هذه المؤسسات بوضع سلسلة طويلة من المحفزات والعقوبات فى شكل قوانين وإجراءات وقيم وآداب عامة.. وظيفة المحفزات هى دفع الحكام والمحكومين إلى الالتزام بالمصلحة العامة للمجتمع والتقيد بالقانون والقضاء على الامتيازات، أما العقوبات فهى تردع كل من تسول له نفسه الخروج عن مقتضيات الصالح العام أو اختراق القانون أو التربح من الوظيفة العامة. وقد تم هذا الأمر نتيجة صراع طويل، وعادة ما تواجدت جبهتان، واحدة تقاوم التغيير وأخرى تناصره، ولأى تغيير ثمن فى شكل صراعات وحروب أهلية وموجات ثورية متعددة.

وقد تطور الأمر تدريجيا حتى اتضحت معالم النظام السياسى الحديث بخصائصه الرئيسية المشتركة وهى دولة المؤسسات الديمقراطية المدنية المنتخبة، والتى تمكن الشعب من المشاركة فى صنع السياسات التى تستهدف الصالح العام، فى ظل حكم القانون والمواطنة وبلا أى امتيازات لطبقة أو فئة، كما صارت سلطة الشعب لا يعلوها نفوذ أى مؤسسة غير منتخبة كالمؤسسات العسكرية والقضائية والدينية. ولا يزال هذا النظام يتطور، فمع سيطرة الشركات الكبرى، تتطلع الشعوب إلى أنماط جديدة من الديمقراطية كالتشاركية والتداولية وغيرها.

بالطبع للأطر التاريخية والثقافية والجغرافية أدوار مؤثرة فى تطور الشعوب، لكن هناك دولا بدأت من حيث انتهى الإنجليز والفرنسيون وتبنت ذات المؤسسات الديمقراطية دون المرور بثورات وحروب كبرى كما فى شمال أوروبا وكندا واستراليا ونيوزيلندا. وعندما انهارت نظم الحكم المطلق والعسكرى منذ سبعينيات القرن العشرين بجنوب أوروبا ثم بشرق أوروبا وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا بنهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، اختارت دولها نظام المؤسسات الديمقراطية المدنية المنتخبة، مع الأخذ فى الاعتبار أن تفاصيل كل نظام اختلفت من دولة لأخرى حسب الأولويات والتحديات، وأن النظام متطور كما أشرت، فهو ليس كجهاز الحاسب الآلى يستورد كما هو، وليس صنما غير قابل للتعديل، ولهذا تعمل العقول على تطويره ومعالجة الإشكاليات التى تظهرها الممارسة.

•••

ماذا عن الثورة المصرية؟ متى تنجح؟ فى اعتقادى تنجح عندما يحدث ما يلى:

أولا: ادراك قطاعات واسعة من الجماهير والنخب والمؤسسات العسكرية والقضائية بأن ما كان قائما فى مصر قبل 25 يناير ليس دولة وإنما كان كيانا تتحكم فيه فئة قليلة لمصالحها الخاصة، وكانت «مؤسسات» ذلك النظام تضع «محفزات» لاختراق القانون والفهلوة والتربح من الوظيفة العامة، وكانت هناك «وظائف طائفية» بامتيازات خاصة، وعمليات «غسيل مخ» للناس تخبرهم بأن الشعب غير جاهز للحرية وأنه لن يُحكم إلا بالحديد والنار. والنتيجة كانت الفقر والفساد والتبعية للخارج. ولهذا لا يجب تصور أنه كانت لدينا دولة تفككت ويجب إعادة بنائها على ذات الأسس.

ثانيا: إدراك الجماهير والنخب أن ما نريده هو دولة القانون والمؤسسات التى سبقتنا لها دول صغيرة مثل بنين وجزر الباهاما ونيبال وفيجى، وأن هذا النوع من الدول هو بداية الطريق (وليس نهايته) لتغيير نمط السلطة وتمكين الجماهير وصنع حكومات قادرة على معالجة مشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ثالثا: إيمان قطاعات كبيرة من الشعب والنخب بقدرة المصريين ــ كما كل شعوب الأرض ــ على التغيير وتحقيق مطالب الثورة فى الحرية والعدالة والكرامة. لا يوجد شىء اسمه شعب خانع وشعب حر، فالخنوع تصنعه إرداة الحاكم المستبد ومنظومته القائمة على الترغيب والترهيب، والحرية تنتزعها إرادة الشعوب التى تجبر الحكام على التنازل وفسح المجال لجيل مؤمن بالتغيير وقادر عليه.

رابعا: من الصعوبة تصور أن النخب القديمة ستتغير وتقود التغيير. وإذا عدنا للتاريخ فلن نجد ديكتاتورا عدّل قناعاته وصار ديمقراطيا، ولن نجد فئة كانت غارقة فى الفساد والامتيازات ثم قامت ببناء دولة الحريات والقانون. فالطبيعى أن تقاوم النخب القديمة وتحاول إعادة النظام القديم بواجهات ووجوه جديدة. وهذا ما حدث عندنا، فالنخب القديمة قاومت الثورة وخططت لإجهاضها لأن لها مصلحة فى عودة المنظومة السابقة وإحياء الامتيازات القديمة، وأفراد هذه النخب لايدركون سنن التغيير ولا ينظرون إلا لأنفسهم ويتجاهلون الفقر والتمييز الذى يعانى منه معظم المصريين. كما تضم النخبة القديمة نخبا من المعارضة القديمة، بكل تياراتها، والتى تصدرت المشهد جزئيا بعد 25 يناير، إلا أنها لم تدرك سنن التغيير أيضا ولا أهمية تغيير جوهر ممارسة السلطة وتجاهلت نصائح الخبراء وتعاملت مع الثورة بعقلية ما قبل الثورة فساعدت النوع الأول من حيث لا تدرى وساهمت فى إيصالنا إلى ما نحن فيه.

خامسا: تنجح الثورات عندما تظهر قيادات ونخب جديدة تعى تجارب الأمم وسنن التغيير، وتعترف بالسياسة كعلم، وتقاوم متحدة من يقاوم التغيير. هذه القيادات والنخب تركز على المستقبل وتؤمن بضرورة تقييد أى سلطة تصل إليها، وتكون السلطة عندها أداة لصالح الشعب والطبقات المحرومة. لقد أفرزت الثورة المصرية شبابا ونخبا واعية لكنهم لم يتمكنوا من السلطة كما أنهم متفرقون. والمطلوب الآن هو تجميع جهود هذه الطاقات والقيادات الشابة فى جبهة شعبية واحدة بمشروع سياسى محدد يتجاوز مرحلة تفسير ما حدث ولا يفتح كل الملفات مرة واحدة وينظر إلى المستقبل ويركز فقط على كيفية بناء دولة المؤسسات السياسية المدنية المنتخبة التى تغير نمط ممارسة السلطة لصالح جميع فئات الشعب.

•••

صراعنا ليس بين الجيش والإخوان ولا حول من يصبح رئيسا، وإنما هو صراع حول كيف يمكن تمكين الشعب من السلطة؟ وكيف سيمارس هذا الشعب السلطة؟ وكيف يمكن تحويل مطالبه وأولوياته وقيمه العليا إلى سياسات ومشاريع وطنية؟ وإلى أن نصل لهذا، ستستمر الموجات الثورية بكل الطرق الممكنة، فلقد انكسر حاجز الخوف، والإنسان، الذى يميل بطبعه للحرية، سيضحى بكل شيء لأجلها إذا شعر بأنه فقدها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved