مستقبل ضحايا «طاقية الإخفاء»

رانية فهمى
رانية فهمى

آخر تحديث: الجمعة 16 أكتوبر 2015 - 11:00 ص بتوقيت القاهرة

تداخل أمامى فيلم «سر طاقية الإخفاء» عندما كان عبدالمنعم إبراهيم يرتدى الطاقية لكى لا يكون مرئيا، ويفضح بها الزيف فى عالمه، مع مقولة آبائنا التى شبنا عليها «البلد دى يا ولاد بلد شهادات: أهم حاجة تجيبوا الشهادة الكبيرة ثم انطلقوا فى الحياة زى ما أنتم عايزين».

تذكرت الفيلم والمقولة وأنا أشاهد أطفال المؤسسة التى كنت أعمل بها ــ والتى تقوم على رعاية الأطفال المعرضين للخطر وخاصة فى ظروف الشارع ــ فى حفل التخرج الرائع لأطفال الحضانة التابعة للمؤسسة، وهم يقذفون بقباعاتهم الكرتونية السوداء إلى السقف أسوة بالخريجين«الكبار»، ويصرخون بأعلى صوتهم ويتمايلون على أغنية عبدالحليم «الناجح يرفع ايده، هيييييه». فرحة الأطفال انهم سيدخلون المدرسة القريبة من مقر المؤسسة فرحة معدية ملأتنى وقتها زهوا وتمنيت لو امتدت ذراعى لتحتضن كل هؤلاء الأطفال مرة واحدة. ومررت بعينى عليهم جميعا، وأنا مبتسمة فى سعادة، ولكن سقطت الابتسامة عندما سقطت عينى على خمسة أطفال اكتسى الحزن ملامحهم، وهم لا يشاركون أقرانهم فى الحفل. سألتهم: مالكم، مش فرحانين إنكم حتسيبوا الحضانة ولا مش عاجباكم الحفلة؟» قالت لى شيماء ذات الخمس سنوات وقد اغرورقت عيناها بالدموع: أنا قاعدة فى الحضانة مش رايحة المدرسة. وجاءنى نفس الرد من الأربعة أطفال الآخرين. كنت أعرف السبب كما أعلم أن هذا هو حال ست بنات فى سن المدرسة الابتدائى والإعدادى، ولكنهن أيضا لسن ملتحقات بالمدرسة.

•••

تذكرت أيضا كيف كنا نهرول على مستشفيات طلبا لعلاج أحد هؤلاء الأطفال وترفض المستشفى تسلمهم. ولا يشفع لهم سنهم أو مرضهم أو توسلاتنا بدخولهم المستشفى. لماذا كنا وما زلنا نقف عاجزين على تقديم أبسط الحقوق لهم: حق الوجود؟ السبب ببساطة أنهم غير مرئيين من الدولة كأنهم جميعا عبدالمنعم إبراهيم يرتدون طاقية الإخفاء، ولكن هذه المرة هى طاقية العجْز وليس القوة. لماذا؟ لأننا بالرغم من أننا نتشدق بأننا بلد «شهادات» فإن هؤلاء الأطفال ليس عندهم الشهادة التى فى نظرى هى الشهادة الكبيرة وهى شهادة دخولهم للعالم: شهادة ميلادهم التى بدونها يصبح الطفل غير مرئى، لا يحق له تعليم أو علاج أو وجود. لماذا هذه الغصة والمرارة كلما تذكرت محاولاتنا المستميتة فى مطالباتنا بوضع جملة: «لكل طفل الحق فى أوراق ثبوتية» فى دستورنا حتى أضيفت فى دستور 2014 وكنا فى غاية النشوة والانتصار إننا اقتنصنا هذا الحق لأطفالنا فى أعلى وثيقة قانونية وهى الدستور؟

نظرت بكل أسى إلى أطفالنا. كل منهم له قصة: رحمة «ساقطة قيد» أى لها أب وأم متزوجين بعقد زواج رسمى ولكن الأب لم يسجلها فى السجل المدنى فى الوقت القانونى فسقطت من سجل المقيدين فى الحياة. وعلمنا أن أمها حاولت تسجيلها بمفردها وكان معها إثبات زواج رسمى ولكن فوجئت بالموظف يشترط وجود الأب بشخصه أو وجود أحد أقربائه من الدرجة الأولى وهذا لتشككهم فى أن رحمة ابنة للزوجين سويا خوفا من قضايا الإرث، وهذا بمخالفة القانون. لمياء وإبراهيم ومنصور أيضا «ساقطى قيد» ولكن أهلهم متزوجين بعقد عرفى وحالتهم مثل رحمة.

أما رشا وعزة وهبه وهالة فمشكلتهم أعوص: فبالرغم من أنهن ملقبات فى بيت الإيواء بعزة «اللذيذة» ورشا «الشقية» وهبه «الهادية» وهالة «الفنانة» فلقبهن خارج المؤسسة «مجهولات النسب»: رشا مجهولة النسب للأب أى أن أمها معترفة بها ولكن ليس لها أب معروف لكثرة علاقات الأم. عزة لها أب ولكنه غير معترف بها ولا يوجد أى إثبات لزواجه من أمها. أما هبة وهالة فحالتهما الأسوأ فهما مجهولتى النسب للأم والأب، ولم تستطع المؤسسة إيجاد أم أو أب لهما. ولكن بنت أخرى هى ياسمين لها حكاية مختلفة تماما عن بقية أقرانها: ياسمين جاءت «البيت»، كما كان يحلو لى تسميته، بنفسها ولا نعرف حتى الآن إذا كان هذا اسمها الحقيقى واكتشفنا من جلسات التفريغ النفسى أنها تخشى أن تقوم المؤسسة بإعادتها لأبيها الذى كان يقوم بضربها وهتك عرضها. ففضلت أن تكون بلا هوية.

•••

كيف نعتذر لأطفالنا؟ هل نقول لهم: إنظروا إلى «عمو» المستشار القانونى للمؤسسة وكذا «عمو» المحامى اللذان يأتيان إلى المؤسسة، وهما يتصببان عرقا من كثرة الجهات التى يذهبا اليها على مدى أشهر، وربما سنوات حتى يستطيعا استخراج الشهادة الكبيرة لكم وبعدها يمكنكم خلع طاقية الإخفاء والنظر فى عيون موظف المدرسة والمستشفى والنادى وغيرهم والقول بكل ثقة: نحن هنا؟.. هل سيفهمون أى كلمة إذا قلنا لهم، خاصة فى حالات مجهولى النسب، أن «عمو» يضطر إلى استعطاف عشرة مصالح حكومية حتى يفوز بورقة الكمبيوتر المختومة؟ أن الإدارة القانونية للمؤسسة تقوم بعمل عشرة خطوات فى أكثر من جهة حكومية (إدارة المؤسسات بوزارة الشئون الاجتماعية، قسم الشرطة، النيابة، السجل المدنى، مكتب الصحة، إدارة البحث الجنائى بمديرية الأمن، اللجنة القضائية لاختيار الأسماء، ومصلحة الاحوال المدنية)حتى تتمكن من إصدار شهادة الميلاد، وهذا يصعب من الإجراءات، ويؤخر استصدار الشهادة ويكلف المؤسسة وقتا ومجهودا وأموالا مما يجعل بعض المؤسسات تعزف عن استخراج أوراق ثبوتية للأطفال المقيمين لديها؟

وبعد كل هذا ليس مضمونا أبدا أن يأتى إلينا «عمو» بالشهادة. إذا انا نفسى كنت ألهث وراء المستشار عندما يسرد كل هذه الإجراءات التى لا أستطيع استيعابها أصلا، فمن أين نبدأ مع الأطفال؟ هم يريدون فقط حقهم فى أن يكونوا.

بالرغم من كل التعقيدات كنت دائما أقول: لابد من حل، لا يمكن لمؤسسة رعاية أن تقدم كل ما تستطيع تقديمه من خدمات للأطفال بدون أهم خدمة وإلا فلتغلق كل المؤسسات أبوابها. قدم المستشار القانونى الحلول، وهى فى غاية البساطة: بالنسبة لرحمة وهى ساقطة قيد، تقوم الأم بتسجيلها على مسئوليتها وتقول انها المبلغة عن الطفلة ولا يعتد بهذه الشهادة فى حالة المواريث ويرفع هذا الحظر عن الشهادة فى حالة ذهاب الأب أو أحد أقربائه من الدرجة الأولى، ويؤكد أن الطفلة لهم وهذا لعدم ترك الطفلة دون شهادة ميلاد. حتى بالنسبة للمياء وإبراهيم ومنصور الذين تزوج أهلهم زواجا عرفيا، تتبع الأمهات نفس الخطوات فى الحالة الأولى، ولا يعتد بهذه الشهادة فى المواريث إلا فى حالة وجود عقد تصادق على زواج مع وجود الآباء أو أحد اقربائهم من الدرجة الأولى.

فى حالة رشا وعزة مجهولتى النسب للأب: تسجل الأم طفلتها بنفسها مع كتابة إقرار أن هذه الطفلة نتيجة علاقة غير شرعية، ولا يوجد أب يعترف بها وتضع لجنة من السجل المدنى اسم الأب من اقتراحها ويكتب بندا فى السجلات أنه لا يُعتد بهذه الشهادة فى حالة المواريث حتى لا تحدث مشاكل فى حالة تشابه الاسم المقترح مع اسم شخص حقيقى موجود.

وفى حالة هبة وهالة وياسمين، وهن مجهولات النسب للأم والأب: نقترح عمل مكتب مختص داخل السجل المدنى يختصر كل هذه الإجراءات المعقدة، ويكون هو الجهة المختصة التى تلجأ اليها دور الرعاية لاستصدار الأوراق الثبوتية، وهذا المكتب يقوم بالتعامل مع جميع الجهات حتى تصدر الشهادات، ويقوم المختص من الجهة التى تريد استصدار الشهادة بالمتابعة ويوضع بند أيضا فى الشهادة أنها غير معتد بها فى المواريث حتى لا تحدث مشاكل فى حالة تشابه الاسم المقترح مع اسم شخص حقيقى موجود.

•••

وبعد، فهل يأتى اليوم الذى نستطيع فيه كمجتمع وليس فقط كمؤسسة رعاية أن نبشر أطفالنا مثل هبة وهالة ومنصور وغيرهم: لقد خلعنا عنكم طاقية الإخفاء.. أنتم هنا ونحن نراكم؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved