ظاهرة قيس سعيد.. محاولة للفهم

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 16 أكتوبر 2019 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

مضت سيرته الأكاديمية أستاذا للقانون الدستورى فيما هو معتاد من رجل يحترم نفسه وقريب من طلابه، ميله للتقشف فى تفاصيل حياته صاغ صورته فى محيط معارفه، لا انضم إلى حزب موال أو معارض، ولا انتسب إلى تيار سياسى وفكرى بعينه، ونأى بنفسه عن أى منصب تنفيذى ولا ترشح على قوائم أحزاب فى أى انتخابات عامة.
عندما خرج إلى التقاعد عام (2018) لم يخطر بباله ولا بال أحد أن مؤهلاته السياسية والشخصية ترشحه لاكتساح الانتخابات الرئاسية كما حدث بعد شهور قليلة.
لم يلفت اسمه نظر المتابعين عندما تقدم بأوراق ترشحه، كأنه اسم للنسيان وسط أقطاب الحياة السياسية التونسية وما يتوافر لهم من نفوذ ومال وأنصار.
كانت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية صدمة حقيقية لكل التوقعات التى سبقتها، كأنها زلزال قوض الحياة السياسية بكل مكوناتها وتياراتها إلى ركام وطرح سؤال المستقبل مجددا، كما لم يحدث منذ ثورة (2011)، التى أطاحت الرئيس الأسبق «زين العابدين بن على».
بفضل ثورتها حازت تونس قدرا كبيرا من الحريات العامة سمح للرأى العام فيها أن يعبر عن ضيقه البالغ فى صناديق الاقتراع من النخب السياسية المتصارعة على غير قضية تعنيه وتدخل فى صميم شواغله وتعطيه أملا فى تحسين أحواله المعيشية، التى تدهورت على نحو فادح.
انخفض معدل الإقبال على التصويت بـ(20%) عن أول انتخابات رئاسية بعد الثورة عام (2014)، الرقم بدلالته يعبر عن حجم الإحباط الذى ساد قطاعات واسعة بأثر تجربة السنوات الخمس الماضية.
كان عزوف النسبة الأكبر من الشباب عن المشاركة تعبيرا آخر عن حجم ذلك الإحباط.
بدا التصويت عقابيا للأحزاب والقوى السياسية التى منحها التونسيون ثقتهم فى الانتخابات الرئاسية والتشريعية السابقة.
تبعثر حزب «نداء تونس»، الذى أسسه الرئيس الراحل «الباجى قائد السبسى» فى منازعاته وانشقاقاته، وأخفق مرشحه المفترض وزير الدفاع «عبدالكريم الزبيدى» حيث حل رابعا فيما كانت ترشحه التوقعات المسبقة للصدارة، كما أخفق حزب «تحيا تونس» الذى أسسه رئيس الوزراء «يوسف الشاهد» حيث حل خامسا، وضرب الزلزال الانتخابى حركة «النهضة» فى عمق ثقتها بشعبيتها وخرج من الجولة الأولى مرشحها «عبدالفتاح مورو» الذى حل ثالثا، ونالت أحزاب اليسار ضربات أفدح.
لم يستثن الزلزال تيارا دون آخر، ولا وجها معروفا دون آخر، كان العقاب جماعيا.
كان ذلك أقرب إلى ثورة اجتماعية صامتة بقدر ما عبرت عما هو مكتوم من غضب عام.
كان ذلك النصف الأول من الزلزال التونسى.
ولم يكن النصف الثانى أقل دويا حيث صعد إلى الجولة الثانية الحاسمة رجلان متناقضان.
أولهما ــ «قيس سعيد» وهو أكاديمى شبه مجهول، تصعب ملامحه السياسية الحقيقية على النظر بالعين المجردة.. وثانيهما ــ «نبيل القروى» وهو قطب إعلامى موقوف بتهم الفساد وغسيل الأموال أدار حملته من خلف جدران السجن.
حتى هذه اللحظة اتسقت التفسيرات الشائعة مع الجو العام من احباط واسع ونظر سلبى للمستقبل.
الصورة اختلفت تماما فى جولة الحسم، ارتفعت نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع بأكثر من الجولة الأولى والانتخابات التشريعية التى سبقتها، شارك الشباب بمعدلات أكبر، كأن تونس استشعرت خطرا داهما من أن تقع تحت وطأة فساد فى الحكم والارتهان بالكامل للمنظومة السياسية المستهلكة، مالت فى لحظات الحسم إلى «الرجل النظيف».
كان ذلك داعيا رئيسيا لظاهرة «قيس سعيد»، الذى جاء من خارج السياق، وصفاته الشخصية وافقت احتياجات اللحظة، لحظة الضجر من كل ما هو متكلس وفاسد.
فى جولة الحسم تحول «الرجل النظيف» إلى أمل فى المستقبل، ارتفعت معدلات الثقة فى النفس وفى التجربة الديمقراطية إلى حدود غير مسبوقة منذ اندلاع ثورة (2011).
رغم أن الصلاحيات الدستورية للرئيس محدودة بالقياس على ما يتمتع به رئيس الحكومة، إلا أن الانتخابات الرئاسية برسائلها تعطى فكرة عن مدى الانقلاب الذى يمكن أن يطرأ على اللعبة السياسية التونسية وتوازنات القوى مستقبلا.
بتعبير «قيس سعيد»، فإن ما حدث «ثورة جديدة فى نطاق الشرعية الدستورية القائمة».
التعبير منضبط وصياغته على شىء من الدقة، فهو أستاذ قانون دستورى اكتسب شعبيته بإطلالاته بعد ثورة (2011) على الجمهور العام فى مداخلات تلفزيونية امتازت بالرصانة وحسن الإلقاء بلغة عربية فصحى متمكنة، لا يتحدث بغيرها، وهو هنا يحتذى المفكر الراحل الدكتور «أحمد صدقى الدجانى» عضو اللجنة التنفيذية العليا السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذى اشتهر بتصويته ضد اتفاقية «أوسلو»، ربما يكون قد تعرف عليه وتأثر به، وهذا مجرد افتراض.
فى حدود ما هو معروف عن «سعيد» فإنه يجرم التطبيع مع إسرائيل ويعده خيانة وطنية.
كانت دعوته لأنصاره الذين خرجوا يحتفلون فى الميادين الرئيسية بإعلان فوزه رئيسا أن يرفعوا العلم الفلسطينى بجوار العلم التونسى داعيا إضافيا للقبول العام امتد إلى جميع أرجاء العالم العربى.
وهذا دليل جديد على أن القضية الفلسطينية، أيا كانت درجة تراجعها، مقياس لا يخطئ لشعبية النظم والرئاسات.
نحن أمام رجل يصعب توصيفه الفكرى والسياسى خارج الكلام العام، فهو مستقل كما يقول ويؤكد، وقد تكون الشعبية الكبيرة التى حازها مؤقتة، فكل شىء سوف يتوقف على الطريقة التى سوف يدير بها مهامه الدستورية، ومدى قدرته دون ظهير حزبى على إدارة مكونات برلمان مشتت لا توجد أغلبية ظاهرة فيه.
يلفت الانتباه أن حملته الانتخابية ضمت مجموعة متناقضات، سلفيون لم يعهد عنهم عناية بقضية الديمقراطية والتغيير عبر صناديق الاقتراع وشبان أقرب إلى اليسار الاجتماعى يبحثون عن نوع من القطيعة مع الديمقراطية الليبرالية دون أن يكون واضحا نوع الديمقراطية الاجتماعية التى يطلبونها، حسب ما هو منشور من تقارير صحفية تبحث وتستقصى خلفيات رجل قرطاج الجديد.
بتلخيص ما فهو محافظ دينيا فى مسألة المساواة فى الميراث وراديكالى قوميا فى القضية الفلسطينية وأميل إلى اليسار فى العدل الاجتماعى.
هذا الزواج الفكرى بين المحافظة والثورية وضعته فى دائرة الشخصيات السجالية.
كما أن تصوره للنظام الحزبى أقرب إلى المثاليات الرومانسية عن الديمقراطيات المباشرة، وهو ما يصطدم بالالتزام الدستورى الذى أعلن مسبقا أنه يحترمه ولن يخرج عنه بأى ذريعة.
هو رجل قانون ومن رأيه إن قضاء مستقلا أهم مائة مرة من الدستور وأن تطبيق القانون على الجميع ينبغى أن يتم بلا تمييز.
وجد فيه الشباب ما يحمسهم للانخراط فى حملته باعتقاد أنه أقرب إلى الثورة، يدرك ذلك ويؤكد عليه بشعار «أوفياء لدم الشهداء» فى إشارة للتضحيات التى بذلت فى طلب التغيير وشعار «الشعب يريد» فى إشارة أخرى إلى ما جرى التنكر له من أهداف بذلت من أجلها تلك التضحيات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved