عَوْدَةُ دُخَّان

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 16 أكتوبر 2020 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

حين دخلتُ مِن البابِ مُنذ بضعةَ أشهُر؛ كان الدُّخانُ كثيفًا يُضَبِبُ أجواءَ المكان. لبثت دقائقَ ثم خرجت بلا رَجعَة، وتَجنَّبت مِن بَعد سِلسلةِ المَقاهي الشهيرة التي تحمِل اسمًا إيطاليًا، وتضَع في بعضِ أفرعها مَناضد للمُدخنين وعلى بعد أشبارٍ منها أخرى لغير المُدخنين؛ فيما المكان مُغلَقٌ على الجميع، فقير التهوِية، مُكتظٌّ عن آخره.
***
مع انتشار الفيروس وتوغُّله؛ تبدَّلت الحالُ، ومَنع المقهى روادَه مِن إشعالِ سجائرِهم بالداخل. عَبَرت به مرةً؛ فرأيت رجالًا ونساءً مِن مُختلَفِ الأعمار واقفين أمامَ الباب، وبيدِ كل مِنهم سيجارة؛ ما إن ينتهي منها حتى يُعاوِد الدُّخول.
***
مَرَّ الوقتُ وخَفَّ الذُعر، ولم أُفاجأ كثيرًا بعودةِ الدُّخان إلى حَرَمِ المَقهى؛ هذه المرة مَحبُوسًا داخلَ قَفَصٍ مِن الزُجاج؛ لكنَّ القَفَصَ ليس مُحكمًا بما يكفي؛ فالفواصلُ الواقعةُ بين لَوْحٍ وآخر تسمح بنفاذِ الرائحةِ والسحاباتِ المُتصاعِدة، خاصةً والكُتلةُ البَشَرِيةُ المُجتَمِعَة على نَفثِ الأدخنةِ قد انطلقت تُمارِس طَقسَها بشراهةٍ؛ وكأنها تُعوض ما فات. تطلَّعت مليًا في التصميمِ الذي تَغَيَّر بين يومٍ ولَيْلة؛ احتلَّ القفصُ قَلبَ المكانِ، وترك الهَوَامِشَ والأطرافِ لمَن يرغبون في هواءٍ نظيفٍ ما طالت جلستهم. ربما رأى أصحابُ المَقهى أن العودةَ لسابقِ العهدِ لن تضُرَّ، وأن بناءَ القفصِ الزُجاجيّ قد يُدِرُّ عليهم عائدًا أكبر.
***
حَقَّقَ الفيروس ما لم يُحَقّقه قانونٌ مِن قَبل؛ فمَنَع الشيشةَ وخَفَّفَ مِن مُعدَّلات التدخين، وألزم الناسَ بيوتَهم حتى تضاءلت نِسبُ العَوَاِدم والمُلوثات، وأدركت الطبيعةَ صَحوَةٌ لم تكُن على البال، لكن الفيروس لم ينتصر، فهذه وتلك تعود مِن جديد، ومعها تعود سلوكياتٌ عديدة؛ توارت ولم تندثر أو تفقد سطوتَها.
***
رغم خِفَّته وسُرعةِ اختفائِه؛ يحتلُّ الدخَّانُ مكانةً مِحوَرِيَّة في حياة كثيرين؛ هناك مَن يُفطرون بعد صيامٍ على الدُّخان، ومَن يُوفرون ثمنَ الطعامِ لشراء الدُّخان، ومَن يقذفون غضبًا وضيقًا مع زفراتِ الدُّخان؛ لا يجدون إلاه مُتنفسًا. في الأفراح الشعبِيَّة يُلقي الحاضرون التحية على بعضهم البعض بتوزيعِ الدُّخان، ويتباهون بالكَم. قلةٌ مِن المُدخنين تبتاع "قاروصة" مُغلقة؛ أما السجائر "الفرط" فملجأ مَن لا يملِكون حقَّ العُلبةِ الكاملة؛ إذ مثلها مِثل أغلب المَظاهر؛ تُفرّق السجائرُ بين الطبقاتِ وأحيانًا الانتماءات؛ تسود الأنواعُ المَحَليةُ في الأوساط ِالأقل ثراءً وحظوة، فيما الأنواع الأجنبية الفاخرة تُمَيز طبقةَ مُستهلِكِها وترفعه على الآخرين درجات.
***
إذا اتفقَ الزبون مع الحِرَفِيّ على مبلغ مُحدَّد من المال لقاء خدماته؛ مدَّ الحرَفِيُّ يدَه بعد انتهاء الحساب؛ مُطالبًا بحَقّ الدُّخان، وإذا لم يُعجِبه مِقدار ما نال؛ سأل عن دُّخان صَبِيه ومُساعده. الدُّخانُ حَقٌّ واجب الأداء؛ لا يصِحُّ أن يَتَمَلَّصَ مِنه الزبون.
***
للدُخَّان ألوانٌ ودلالات عند فِرق المتدينين؛ على سبيل المثال، تعرف جماهيرُ الفاتيكان المُنتظِرة في شَوْقٍ؛ أن للأبيض ما انطلق مِن فُوَّهة المَدخنةِ مَعنى، وللأسود مَعنى نقيض. الأولُ يُعلِن إتمامَ اختيار البابا المُرتَقَب بنجاح، بينما الثاني يُفيد التأجيل.
***
يُقال ألا دخان بلا نار، والقَّصد أن لِكُل أثرٍ أصلًا؛ الدُّخانُ أثرٌ، ولا بُد له مِن مَصدر، وقد تعلَّمنا على مدار السنين أن ما مِن شائعةٍ بزيادة أسعارٍ أو بنقصٍ في نَوْع مِن البضائعِ والخدمات؛ إلا وتحقَّقَت ولو بعد حين، وإن نفاها مَسؤولٌ وأقسمَ بعدم صِحةِ ما يتداوله الناس. النيَّةُ مُبيتة، والفقاعةُ التي تقيس ردَّ الفِعل وتَمتَصُّ الغَضَبَ الأوَليّ لم تعُد تخدع كثيرين، ومَصدر الأدخنةِ بات معروفًا، وكذلك مَصيرها.
***
تُوصَف المشاعر والانفعالاتُ التي لا تدوم بأنها "دُخَّان"؛ أي بقاؤها مؤقت وزوالها أكيد. هذه المرةُ بقيَ الدُّخان وأثبتَ حضورَه واستقرارَه، أعلنَ عن ثِقَلِه؛ لا خِفَّتِه، وعن مَكانتِه الرفيعةِ؛ لا تفاهته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved