الأرقام لا تكذب لكنها قد تضلل

محمد زهران
محمد زهران

آخر تحديث: السبت 16 أكتوبر 2021 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

كنت قد بدأت مؤخرا أقرأ كتابا بعنوان «الأرقام لا تكذب» من تأليف فكلاف سميل (Vaclav Smil) أستاذ الطاقة والبيئة بجامعة مانيتوبا الكندية. هذا الأستاذ الكبير له الكثير من الأبحاث الموجهة للخاصة والكتب الموجهة للعامة فى مجال الطاقة ومواردها ومستقبل الطاقة المتولدة من البترول والغاز وتأثير الطاقة المتجددة ومنافستها للوقود الأحفورى، بجانب هذا التخصص فهو مولع بالأرقام وتحليلها للخروج بإجابات أكثر عمقا على المشكلات التى تواجه العالم سواء اقتصادية أو صحية أو تكنولوجية. فى هذا المقال سنلقى نظرة على بعض المقتطفات من هذا الكتاب (المنشور العام الماضى) ونحاول تحليلها وإسقاطها على واقعنا.
يقول سميل إن المؤشرات الاقتصادية التى تستخدمها المؤسسات الدولية ليست دقيقة ولا تعطى الصورة الكاملة وقد تعطى صورة مغلوطة لأنها تعتمد على المعلومات التى تم حسابها فى تلك المؤشرات وتتغاضى عن معلومات أخرى قد تكون مهمة، فمثلا إجمالى الناتج المحلى لأى دولة والذى تستخدمه مؤسسات دولية كثيرة هو مؤشر يتغاضى عن عوامل مهمة للدول والعالم ككل مثل مقدار التلوث فى المياه والجو ومقدار الأراضى الزراعية وتأثير التغير المناخى على الدولة.
مثال آخر عن المؤشرات غير الدقيقة هو نسبة البطالة، مثلا الرقم الرسمى لنسبة البطالة فى الولايات المتحدة الأمريكية هو ثلاثة ونص فى المائة فى ديسمبر 2019، لكن لننظر بعمق أكثر إلى هذا الرقم: نسبة البطالة تعنى أننا نقسم رقمين وهما عدد العاطلين على العدد الكلى، لكن ما هو تعريف العاطل؟ هل هو الذى أصبح بدون عمل من يوم أمس؟ أم بدون عمل منذ 15 أسبوعا؟ أم منذ عام أو أكثر؟ وما هو العدد الكلى؟ هل هو العدد الكلى للسكان؟ أم العدد الكلى للسكان فى سن العمل؟
وعندما نذكر عدد المواطنين غير العاطلين فهل هم من يعملون بعض الوقت (partــtime)؟ أم كل الوقت (fullــtime)؟
هناك فصل طريف فى كتاب سميل عن كيفية قياس جودة الحياة فى الدول، هناك الكثير من المؤشرات منها الاقتصادية والصحية إلخ، لكنه يقترح مؤشرا قد تندهش له فى البداية لكنه منطقى جدا: نسبة موت الأطفال، كلما قلت النسبة كلما دل ذلك على وجود رعاية صحية أفضل وتلوث أقل وعائلة تعتنى بالطفل إلخ، إذن اختيار المؤشر مهم، ومعرفة ما يدل عليه المؤشر وما يهمله مهم أيضا.
عندما نقول إن هذه الجامعة أو تلك من العشر الأوائل على العالم فى تصنيف كذا، فهل هى من العشر الأوائل فى كل التخصصات؟ أم فى أغلب التخصصات؟ أم هناك عوامل أخرى؟ كنا قد تحدثنا عن تصنيف الجامعات فى مقال سابق فلن نعيد الكلام هنا.
لننظر إلى أحد مصادر الطاقة النظيفة: الرياح، هل هى نظيفة فعلا؟ طبعا الرياح نفسها هى من أنظف مصادر الطاقة لكن لننظر بعمق أكثر: ماذا نحتاج كى نحول الرياح لطاقة؟ نحتاج بناء المراوح العملاقة (طول شفرة المروحة قد يزيد عن 200 متر فى بعض التصميمات) والتوربينات، هذه تحتاج إلى سيارات نقل عملاقة لنقل الحديد والمواد المستخدمة فى بناء جهاز توليد الطاقة من الرياح للمكان المحدد، ثم تمهيد طريق لوضع كل ذلك فى مكان مرتفع، كل ذلك يحتاج معدات تعمل كلها بالطاقة غير النظيفة، المصانع التى تصنع المراوح العملاقة تحتاج إلى طاقة، ثم نحتاج إلى صيانة وتزييت المراوح (وهذا أيضا يأتى من البترول) عدة مرات أثناء عمرها الافتراضى وهو حوالى عشرون سنة، هل ما زلت تعتقد أنها ما زالت طاقة نظيفة مائة بالمائة؟ لنتخيل تعميمها على العالم كله، ما هو الثمن الذى يجب دفعه؟
الآن عندما تقرأ أية إحصائيات أرجو أن تنظر إليها بعمق أكثر وبعقلية نقدية، هناك حلول كثيرة لكل مشكلة لكن لكل حل مزاياه وعيوبه، لذلك عندما ترى أرقاما تظهر مزايا فقط أو تظهر عيوبا فقط عليك أن تفكر فى المعلومات الناقصة حتى ترى الصورة الكاملة، وهذا ينطبق وبشدة على باحثينا من الشباب الذين يقومون بتجارب وينشرون أبحاثا، عليهم أن يدققوا فى الأرقام التى يحصلون عليها من تجاربهم وقد يضطرهم ذلك إلى القيام بمزيد من التجارب، القدرة على التحليل لا غنى عنها لأى شخص، ولكن تزداد أهميتها لمن يتعامل مع الأرقام فى عمله.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved