على حساب الشعوب

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 16 أكتوبر 2022 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

لم تبلغ السياسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطينى منذ زمنٍ طويل الحدة التى تشهدها اليوم. يدعمها انفلاتٌ علنى غير مسبوق للاستفزازات العنصرية التى يُبديها المستوطنون فى القدس، كما حيال القرى الفلسطينية البسيطة. ولا يلقى هذا التصعيد اهتماما كبيرا لا عربيّا ولا دوليّا، هذا فى حين يظهر صارخا افتضاح سياسات الدول التى تعترِف بضمّ إسرائيل للقدس وللأراضى الفلسطينية والسوريّة المحتلةّ وبالوقت نفسه تُدين بشدّة ضمّ روسيا لأراضٍ فى أوكرانيا.
قد يشير هذا التصعيد إلى أمرٍ ما يتحرّك فى مجال أزمات المنطقة، أى بلاد الشام والرافدين، وربّما ليس نحو الأفضل لشعوبها. وربّما هذا ما دفع أخيرا الفصائل الفلسطينيّة للتوافق فى الجزائر.
وفى لبنان، واضحٌ أنّ أمراء السلطة القائمة قد توافقوا، رغم صراعاتهم ومناكفاتهم الداخليّة، على تحميل الشعب اللبنانى آثار الأزمة المالية الكبرى التى أُخِذَت البلاد إليها ودون أى «إصلاح»، حتّى لو كان ثمن ذلك التخلّى عن دعم صندوق النقد الدولى ماليّا أو على الأقلّ معنويّا. ووصولا إلى تتويج أمراء الحرب توافقهم باتفاقيّة ترسيم بحريّة مع إسرائيل برعاية أمريكيّة – وفرنسيّة – تخلِق سرابا بتدفّقات ماليّة وبالتالى عودة بعض الودائع يوما إلى أصحابها. هذا التوافق الأخير لافتٌ وغير مسبوق. ليس فقط لأنّه يُكرّس وضعا غريبا يضع حتّى حقل قانا المحتمل ضمن شراكة لبنانيّة ــ إسرائيليّة غير واضحة المعالم، وحيث تقوم الولايات المتحدة (وفرنسا عبر شركة توتال وعلى الأغلب قطر أيضا) برسم مسار ذلك. «تطبيعٌ» ضمنى تفرضه السلطة على الشعب اللبنانى، دون نقاشٍ حتّى فى البرلمان الذى أعاد مؤخّرا شرعنة تلك السلطة (كما يفرض ذلك الدستور اللبنانى).
لقد صَمَت القائمون اللبنانيوّن على «السيادة» و«المقاومة» على السواء وعلى أقصى طرفى التناقضات السياسيّة، تحت حجّة أنّ هذا هو «المُمكِن» فى زمن «اللا مُمكِن» والحرب الكونيّة فى أوكرانيا. ممّا يدعو للتساؤل عن طبيعة «الصفقة الكبيرة» التى جرت، سواءً فيما يخصّ تكريس هيمنة أمراء الحرب وإعاقة أيّة قيامة للدولة بإنقاذ المجتمع ممّا أُخِذَ إليه، أو فيما يتعلّق باللعبة الإقليميّةــ الدوليّة التى يتبع كلّ منهم ــ أى أمراء الحرب ــ لأحد أطرافها المتعدّدة.
ومن اللافت أيضا فى هذا السياق أن يترافق الإعلان عن «الصفقة» بإعلانٍ مماثل حول إعادة «النازحين» السوريين إلى بلادهم (هكذا هو التعبير الرسمى بدل اللاجئين، وكأنّ لبنان ما زال جزءا من سوريا!، فقط كى لا تعترف السلطات اللبنانية بحقوق اللاجئين). فيما يتناسى الجميع مشروع نقل الغاز والكهرباء المصريين إلى لبنان عبر الأردن وسوريا لتأمين الحدّ الأدنى من الكهرباء فى البلد على المدى القصير، والذى تمّ توقيعه بين الدول بموافقة أمريكيّة ضمنيّة. لكن بالوقت نفسه، تعمل مجموعات ضغط ــ لوبيّات ــ فى واشنطن على نسفه من الأساس عبر زجّ مواد جديدة فى «قانون قيصر». وهذه «صفقة» بخصوص كهرباء مستقبليّة بعيدة الأفق، ربمّا لن تأتى أبدا، مقابل كهرباء فوريّة توثّق الروابط بين لبنان ومصر، وتفيد الأردن وتُعين سوريا، التى تفتقد الكهرباء، قليلا من أجل استقبال نازحيها ولاجئيها إذا كان هذا هو الهدف.
• • •
بالتزامن مع ذلك كلّه، تنفجر حافلةٌ فى دمشق تنقل مجنّدين وتذهب بكثيرٍ من الضحايا. وكأنّ أحدا يُرسلُ رسالةً أنّ جزء سوريا الذى ما زال يخضع للدولة السوريّة «غير آمن» كى يستقبِل اللاجئين من الخارج. وفى الشمال الغربى، يتفجّر القتال بين الفصائل المدعومة جميعها من تركيا، لينتهى الأمر «باحتلال» «هيئة تحرير الشام» لعفرين. ويبدو بذلك الأمر أبعد من الصراع على المعابر والغنائم، كما فى كلّ قضايا أمراء الحرب، إذ هناك أيضا من يُرسِل رسائل. رسالة إلى «حزب الاتحاد الديموقراطى» ومن ورائه «حزب العمّال الكردستانى»، المدعومين بالجيش الأمريكى، حول عفرين أكثر مناطق التواجد الكردى العزيزة عليهما. ورسالة إلى السلطة فى دمشق حول القدرة على ضبط الميليشيات المتفلّتة فى الشمال الغربى عبر «هيئة تحرير الشام».
واللافت أيضا هنا أنّ الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تمضى قُدُما فى توثيق علاقاتها مع الطرفين النقيضين فى الصراع السورى، مع «حزب الاتحاد الديموقراطى» و«قوّات سوريا الديموقراطيّة» من ناحية، والتى تتواصل زيارات الوفود الرسميّة من هذه الدول إلى المناطق التى تسيطر عليها، ومع «هيئة تحرير الشام» و«حكومة الإنقاذ» التابعة لها من ناحية أخرى، عبر «المنظّمات المدنيّة» المموّلة من هذه الدول بهدف إغاثة النازحين السوريين. إغاثة مستمرّة منذ عشر سنوات دون التمحيص فيمن يستفيد منها حقّا والتباكى الإعلامى» بالوقت نفسه على أحوال هؤلاء النازحين البائسة كلّ شتاء.
إلى أى سوريا يريدون إعادة اللاجئين؟ سوريا الشمال الغربى، حيث نصف السكّان نازحون يرزحون فى الخيام؟ أم سوريا الشمال الشرقى الذى غدا مجرّد مصدرٍ لنفطٍ يتمّ تهريبه دون مقوّمات فعليّة؟ أم سوريا «النظام» حيث يعيش أغلب الشعب السورى تحت خطّ الفقر وفى مواجهة مخاطر عودة أوبئة تعود إلى زمنٍ بعيد؟ هذا فى حين «يسيد ويبيد» أمراء الحرب دون رادع على الأجزاء الثلاثة.
ويبدو أنّ «الصفقة» والرسائل المتبادلة قد شملت العراق، حيث التأم البرلمان أخيرا وانتخب رئيسا للجمهوريّة ورئيس وزراء رغم الاحتجاجات الشعبيّة العارمة ضدّ أمراء حرب العراقيين الذين استنفذوا هم أيضا موارده النفطيّة الضخمة منذ الاحتلال الأمريكى دون أن يحصل مواطنوه على نعمة الكهرباء المستدامة بالتوازى مع عدم قدرة العراق على تكرير هذا النفط... حتّى لإرسال شحنة «فيول» مباشرةً لمساعدة لبنان. هنا أيضا تغييبٌ مقصودٌ للدولة على تأمين الحدّ الأدنى لشعبها فى حين تستبيح إيران وتركيا أراضيها وأجواءها رغم تواجد القوّات الأمريكيّة وقواعدها.
• • •
بالمقابل، اشتعلت إيران بالتظاهرات من أجل «النسوة والحياة والحريّة». لا شكّ أنّ أسباب التظاهرات ذات طبيعة اجتماعيّة داخليّة ومن أجل حريّة المرأة. لكن من الذى يظنّ أمام مشهد ما يحدث من فلسطين إلى لبنان إلى سوريا والعراق أنّ القوى المسمّاة «عُظمى» تنتصِر حقا، عبر كلّ التجييش الإعلامى، لقضايا النساء والحياة والحريّات؟! أم تبحث هنا أيضا عن صفقة لترسيخ أمراء حرب وإلغاء مقوّمات دولة... بغية فرض الهيمنة؟!
فى المحصلة، ما زال زخم مقاومة الشعب الفلسطينى كبيرا. لا خيار آخر أمامهم غير ذلك. كلّ «الصفقات» تتمّ على حسابهم وقد استنفذَت مفاعيلها. أمّا اللبنانيوّن والسوريّون والعراقيّون فما زالوا يخضَعون لـ«صفقة» تلو الأخرى على حسابهم وكذلك لكثيرٍ من الأوهام، بأنّ هذا الطرف الخارجى أو ذاك يتطلّع إلى منحهم الحريّات والرخاء فى حين يزرع الجميع الفرقة بينهم بغية تمكين أمراء حربهم عليهِم... وبانتظار استفاقة الشعوب... يوما ما.
رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربيةــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved