(الهوية وسياقها التاريخي)

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: السبت 17 نوفمبر 2018 - 10:19 ص بتوقيت القاهرة

تحدث إلىّ صديق مثقف يعشق الفلسفة معلقا على مقالى السابق متسائلا عن ما هو الرابط بين مفهومنا للهوية اليوم وبين فهمنا للمنظومة الدينية التى تشكلت من زمن بعيد؟ وكان جوابى أن هويتنا التى نعيش بها اليوم ليست هى التى كانت لدى أجدادنا فى القرن الأول الميلادى فى مصر ولا التى تكونت لدى أجدادنا فى القرن السابع الميلادى فى الجزيرة العربية، ولقاء الهويتين وتفاعلهما بعد دخول العرب إلى مصر وهبنا نحن المصريين على مدى السنين هوية مختلفة متفردة هى خليط بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة المصرية المسيحية، والمشكلة التى أردت إثارتها هى أننا احتفظنا بالمنظومة الدينية فى القرن الأول والسابع ثابتة غير متطورة فى حين تطور الإنسان المصرى حضاريا فثبات المنظومة الدينية غير المتطورة يضعنا خارج المنظومة الحضارية المحيطة بنا وكان مثلى الواضح الذى ضربته فى المقال السابق هو الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية عندما ذهب إلى باريس ووجد نمط تفكير ونموذجا حضاريا مختلفا فلم يحاول أن يقدم نظرية متكاملة للتجديد الدينى لكى تواكب العصر والحضارة بقدر ما تحدث عن «أسلمة الحداثة» وقد حاول أن يجدد لكنه هوجم من الأصوليين بأنه يغَّير الإسلام ويفسده ومن الحداثيين بأنه لا يمتلك نظرية تجديدية متكاملة للحوار حولها وهو نفس ما فعله الصليبيون عندما قاموا بغزوهم للوطن العربى لاسترداد بيت المقدس على أساس أن المسيحيين هم الأولى به ونسوا تماما أن هذا الوطن العربى به مسيحيون كثر لكنهم وضعوا مسيحيى الشرق الأوسط خارج منظومة المسيحية لا لشىء إلا لأنهم يختلفون فى الهوية رغم أنهم يتفقون فى الدين، وطبقا لهذه الفكرة أخذت نموذجا محددا هو السيدة مريم العذراء والتى تحدث عنها الإنجيل والقرآن ولا يستطيع أحد أن ينكر أنها ذات الشخص المقدس فى الديانتين، لكن عندما قدمت مريم العذراء فى المسيحية فى إطار وهوية الشرق الأوسط كان إطارها مزود البقر ورعاة الأغنام وهيكل سليمان والفلسفة اليونانية والحضارة الرومانية وذات الشخصية قدمت فى القرآن وكان إطارها النخيل والتمر والصحراء والحضارة العربية وقلت أن الحقيقة التى لا يختلف عليها اثنان هنا (الوجود التاريخى لمريم العذراء) لكنها لا تقدم لنا فى الكتب المقدسة كحقيقة مجردة لكنها تقدم مفسرة وموضحة من خلال السياق التاريخى والحضارى للزمان والمكان، وهو الخلفية التاريخية لكل حقيقة مجردة وتساءلت فى آخر المقال بمناسبة حادث دير الأنبا صموئيل عن الجهاد والاستشهاد وهما حقيقتان مجردتان لكنهما قدما لنا فى القرآن والإنجيل فى سياق مختلف تماما عن سياقنا الحضارى الحالى فكيف ترى نستطيع فهمهما اليوم ؟!
السهل هو أن نأخذ هاتين الحقيقتين كما هما بسياقهما الحضارى التاريخى فى الإنجيل والقرآن متجاهلين قرونا عدة تتابعت وتطورت فيها هويتنا ونفرض التفسير التاريخى على عصرنا الحالى ونعتقد ونحن نفعل ذلك أننا نحافظ على قدسية كتبنا المقدسة ونحن نفعل ذلك لسببين الأول هو عدم قدرتنا على فصل الحقيقة عن سياقها التاريخى والاحتفاظ بها مجردة والثانى عدم قدرتنا أيضا على تقديم الحقيقة المجردة القديمة الأصيلة فى سياق حضارتنا الحالى. من هنا جاء الفشل الذريع لمفسرى الكتب المقدسة وأصبحوا فريسة لأولئك الذين يرفعون هذه الكتب فى وجوههم صارخين أنتم لا تريدون أن تطبقوا كلام الله وهذا حق يراد به باطل لأن الحق هو الثابت غير المتغير من كلمات الله أما المتغير فهو السياق المحيط بكلمات الحق مثل الحضارة واللغة والثقافة وهذه بطبيعتها متغيرة.
***
والسؤال هل هناك جهاد نقول نعم يوجد جهاد فى المسيحية كما يوجد فى الإسلام كحقيقة مجردة وثابتة والحقيقة تقول يوجد نوعان من الجهاد فى الإسلام النوع الأول هو الجهاد الأكبر ضد النفس الأمارة بالسوء واللوامة والهوى وهذا الجهاد يعتمد على 4 أمور:
جهاد القلب والجهاد ضد الشيطان والثانى جهاد العبادات والثالث جهاد التربية ونشر قيم وأخلاقيات الإسلام وأخيرا الوقوف على عرفات يعتبر جهادا.
النوع الثانى: الجهاد الأصغر وهو جهاد السيف وهو جهاد نشر الدعوة الإسلامية والهدف منه ابتغاء مرضاة الله.
وهناك التصوف كأحد أنواع الجهاد فالتصوف مع الزكاة نوع من الاستعداد لحياة ما بعد الموت والتصوف لا يطلب إلا وجه الله وهذا يؤدى إلى تنقية النفس التى تؤدى إلى السعادة على الأرض إذن الأساس فى الجهاد كحقيقة تنقية الذات ونشر القيم والأخلاقيات والعبادة ثم الجهاد بالسيف كالجهاد الأصغر، هكذا نرى أن الذى يجاهد فى سبيل الله لكى ينشر الدين واستخدام السيف أقلهم وآخرهم ويستخدم ضد الذين يقاتلونكم فى الدين، لم نر شخصا فى ذلك السياق ينتحر بالسيف لكى يثبت إسلامه، لم نر شخصا يقتل مسالمين من أتباع غير دينه بل إن الإسلام حرم ذلك بوضوح. أما الجهاد فى المسيحية فهو الجهاد ضد النفس وضد الخطية يقول بولس الرسول «جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعى حفظت الإيمان» فمفهوم الجهاد فى المسيحية خالٍ تماما من العنف، مع تطور الهوية مع الزمن استخدم المسلمون التلفزيون والإذاعة والفيس وكل أدوات العصر لنشر قيم الإسلام ومع تطور الحضارة أصبح العنف من المنظومات المرفوضة تماما من المجتمع، لذلك ندم المسيحيون أشد الندم على الحروب الصليبية لأنهم استخدموا السيف ضد أعدائهم، ندموا على استخدام القنبلة الذرية وغزو العراق لقد أصبح استخدام العنف ممقوتًا، أما فى الإسلام فأولئك الذين يفجرون أنفسهم فى أناس مسالمين بدافع الجهاد هم يعيشون خارج الزمن، وممارسات داعش هى أكبر دليل على اتخاذ الجهاد بسياقه القديم وتطبيقه فى سياق الحضارة الحديثة فأضر بالإسلام أيما ضرر. إن الشهيد فى الإسلام أيام الرسول والفتوحات كان يموت بيد أعدائه وكان هدفه من الحرب أن يأخذ أرضا جديدة يعلن فيها الإسلام كدين وحضارة والهدف امتداد حضارته، لكن شهيد اليوم الذى يفجر نفسه فى البشر سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين ويدعو هذا جهادًا قد خرج عن «حقيقة الجهاد» وعن السياق القديم والجديد أيضا وعن الحضارة الإنسانية المعاصرة، وبذلك لن يعتبر شهيدا من قتل أبرياء لا يقاتلونه.
***
أما الشهادة فى المسيحية فكان الرسل الأوائل يقبض عليهم لأنهم يبشرون بالإنجيل وبالسيد المسيح ضد آلهة الوثن وكانوا يعذبون ويحكم عليهم بالموت حرقا أو قتلا بالسيف أو بإلقائهم إلى الوحوش الضارية فى ملاعب روما وساحاته، لقد كانوا يعيشون مختبئين فى الغارات وشقوق الأرض.
وقد ظهرت دعوى فى القرون الأولى أن من يستشهد سوف يجلس مع المسيح فى ملكوت السماوات فتبارى الكثيرون فى الذهاب إلى السلطات الرومانية يبلغون عن أنفسهم، لكى يستشهدوا ويدخلوا ملكوت السموات وقد شجعهم بعض قادة الكنيسة على ذلك بينما حذرهم البعض الآخر على أن ما يفعلونه هو انتحار مرفوض من الله، لذلك المسيحيون اليوم الذين يمجدون الاستشهاد ويتمنون أن يستشهدوا، هؤلاء لا يدركون معنى الشهادة، إن الذات الإنسانية هى أغلى ما فى الوجود عند الله والإنسان والتفريط فيها نوع من التهور والحماقة.
لذلك إذا أردنا أن نأخذ حقيقة الجهاد والاستشهاد نرى أنهما حقيقتان ثابتتان فى ذاتهما أما سياقهما فقد تغير تماما فالجهاد اليوم فى العصر الذى نعيشه هو الجهاد العلمى والأدبى والأخلاقى والفنى والدينى حتى تكون الدعوة للدين مناسبة للعصر الذى نعيش فيه وليست دعوة تأتى من مئات السنين بسياقها السيف والفرس والسبايا والعبيد....إلخ والقتل على الهوية. أما الاستشهاد فهو ألا يقتل إنسان نفسه فى سبيل الله بأى صورة كانت ولا يرحب آخر بالاستشهاد فيضع نفسه فى موقع يسهل فيه استشهاده لكن لو قتل إنسان بسبب تمسكه بمبادئه أو دينه أو أخلاقياته أو علمه فهو يعتبر شهيدا. لذلك لن يحدث فى مصر أى نوع من التجديد الدينى إلا إذا استطعنا أن نجرد الحقائق الإيمانية التى نتبناها من سياقها التاريخى وأن نضعها فى سياق تاريخنا الحديث والحضارة الإنسانية التى نعيشها فلا نبدو أمام العالم شعبًا يعيش خارج الزمن والحضارة الحديثة كما هو الحال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved