قوت الحمام

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 16 نوفمبر 2022 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

أشياء بسيطة، كلمات قليلة، لمسة أو سلام أتلقاه فى صباح بارد، قد تغير من يومى أو تلونه بعد بداية رمادية باهتة. فى لحظات التأمل، خصوصا بعد أحداث مغيرة لمجرى الحياة، أمر بمجهر فوق التفاصيل فتتصدر السياق. صوت طفلتى فى الصباح يذكرنى بأشعة الشمس المبكرة، حين تستيقظ قبلى وكأنها تقفز من النوم إلى الحركة دون مقدمات تماما كما يدخل النور إلى غرفتى شرقية الاتجاه. رسالة من أمى تحكى فيها عن عودتها إلى دمشق بعد انقطاع، تمسك أمى بيدى رغم البعد ونعود معا إلى شارعنا، أنا فى مدينتى الحالية وهى فى الشام.
• • •
تحت المجهر تختفى أيضا المنغصات، ربما بسبب جمال التفاصيل الأخرى، ولأن يوما خريفيا دافئا لن يسمح للمنغصات أن تتصدر المشهد. قوت الحمام، عطاء صغير حتى الاختفاء: إبداع محمود درويش بخلق صورة ومادة بصرية كفتات خبز تنثره سيدة على حافة شباك المطبخ، وضحت الصورة؟
• • •
بالأمس كنت فى العشرين، تقول أغنية شهيرة، واليوم أنا فى التفاصيل، فى فنجان من القهوة أنظر فى قعره لأرى طريقا فى آخره حضن صديقة، فى رائحة الثوم حين تصلنى من بيت الجيران، فى مشاحنة صغيرة مع ابنى الأكبر حول مواعيد النوم ومحاولتى أن أتقبل أنه مراهق ولم يعد طفلا ينام حين أطفئ النور.
• • •
«إله الأشياء الصغيرة» للكاتبة أرونداتى روى كان بمثابة ثورة أدبية حين صدر منذ خمسة وعشرين عاما، مجهر تمر من تحته الحياة ودعوة للدهشة المستمرة من التصاق التفاصيل بالروح ومساهمتها بتشكيل الوعى. لم أفكر بهذا الكتاب منذ زمن بعيد، ربما لسرعة أحداث السنوات الأخيرة وابتعادى عن المجهر والتفاصيل لصالح ما رأيته أوليات ولصالح إيقاع لا يسمح بالتأمل.
• • •
لا أدعى أبدا أننى تخليت عن السرعة والزخم، إنما بدأت تفاصيل تستوقفنى وتمد لى لسانها وهى تسأل: هل الصباح مع ابنتى كإشراق الشمس؟ توقفى إذا واستمعى إلى قصتها. كيف نسيت عيد ميلاد صديقتى؟ لم أنس، ما زال أمامى بضعة أيام، يجب أن أضع علامة وأهاتفها. ماذا حدث لذلك الرجل الذى سألنى عن الطريق فى مدينة غريبة وأظن أننى أرسلته فى الاتجاه المضل؟ هل وجد من يعيده إلى المحطة؟ لماذا تذكرت نظرته الحائرة اليوم؟ ربما لأننى أقف أيضا أمام محطة، محطة فى الحياة أستطيع أن أركب فيها قطارا سريعا أو بطيئا.
• • •
الخوف: هناك منه أطياف تعرفت على كثير منها فى السنة المنصرمة. يلازمنى بعضها اليوم، مع تحسن الرؤية وتجاوزى لأزمة صحية لم تكن متوقعة. أظن أن من يخاف مرة حين يواجه احتمالات مرعبة لا يمكن أن يعود إلى حالة التراخى التى لازمته من قبل. أظن أن بعض التأهب يدخل تحت الجلد حتى ينتزع فتيل المفاجأة إن جاءت من جديد.
• • •
التوتر غير المبرر، يزحف من تحت الأظافر فيجتاح الجسد، فى لحظة عادية لا يمكن ربطها بأى تطور جديد، هكذا فى منتصف النهار وحين أنقر على الحاسوب أثناء العمل يظهر التوتر خيوطه التى تشد على رقبتى فأرد بعنف على مكالمة لا تفهم صاحبتها سبب نبرتى ولا أستطيع أن أبررها.
• • •
قد يتساءل القارئ عن العلاقة بين كل ما سبق. أتخيل شاشة رقمية تظهر فيها أشكال هندسية بألوان مختلفة سرعان ما تربط بينها خيوط فتخلق تواليا بينها: اكتشاف المرض، التعامل مع الجراحة والعلاج، التعافى، الخوف من أن يعود، التأكيد على التعافى مع الحرص على الفحص الدورى، إعادة ترتيب الأولويات والنظر إلى الحياة من خلال عدسة مكبرة تظهر تفاهة المنغصات، ظهور مجموعة من الحمام ترقص فى سماء مدينة خريفية، أراقبهم فأتذكر صوت ابنتى، أخاف أن أختفى، لن أختفى فأنا بخير، ظننت أننى بخير منذ سنة وأعلم الآن أننى لم أكن، أبحث عن راقصى السماء وأراهم على خلفية غيوم تشبه حلوى غزل البنات بهشاشتها وشفافيتها.
• • •
قوت الحمام: يستحق الحمام فعلا مكافأة على رقصه أمامى فى لحظة ضغط فيها الخوف على رقبتى، ويستحق درويش كل الحزن على توقف كلماته العبقرية، وتستحق الحياة التوقف أمام الشباك مع فنجان القهوة بعد أن ذهب أولادى إلى المدرسة وتساءلت كيف ستكون الحياة حين يغادرون البيت إلى حياتهم التى سأصبح فيها ربما تفصيل يتذكرونه حين يستخدمون هم وقتها عدسة مكبرة؟.
• • •
تفاصيل المجهر ملونة متحركة تذكرنى أن الأصوات والروائح والرقص هى شمس تشرق على أفكارى المظلمة حين تجتاحنى. لن أنسى قوت الحمام، فأنا مدينة للحمام على رقصها أمامى ذات صباح شعرت فيه بالخوف والتوتر دون سبب.
من قصيدة محمود درويش «فكر بغيرك»:
وأنت تعد فطورك، فكر بغيرك،
لا تنس قوت الحمام

كاتبة سورية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved