الإرهاب الجديد

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الأحد 16 ديسمبر 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

 نتقلنا فى مصر من إرهاب السلطة إلى إرهاب المجتمع. إذ فى ظل الاستقطاب الحاد الذى نعيشه، وفى غياب مؤسسات أو أوعية للحوار، وفى غياب ثقافة ديمقراطية تجعل الحوار بديلا عن الشجار، فإن التجاذب والتراشق صارا من أبرز سمات المرحلة التى نعيشها. لم تعد لنا مشكلة كبيرة مع السلطة. بعدما انتخب الأغلبية رئيسا أيده البعض وعارضه آخرون، لكنه بعد انتخابه اكتسب شرعية لا يستطيع أحد أن يطعن فيها وإن اختلف معها. المشكلة الأكبر الآن بين تيارات المجتمع التى توزعت فى الوقت الراهن على معسكرين، شاع وصفهما بالقوى الدينية والمدنية. وهو وصف انتقدته فى مقام آخر، لأنه يضع الطرفين على النقيض من بعضهما البعض، وذلك غير صحيح، فى حين أن الوصف الأدق أنه بين قوى إسلامية وعلمانية بالأساس، على هوامشها مؤيدون للرئيس محمد مرسى ومعارضون له، لأسباب سياسية لا تتعلق بالهوية الدينية أو المدنية.

 

فى العراك الراهن يوصف مؤيدو الرئيس مرسى بأنهم سرقوا الثورة وخانوها وباعوا الشهداء وبأنهم ظلاميون متخلفون يريدون إعادة مصر إلى العصور الوسطى، ويحولونها إلى مجرد إمارة فى دولة الخلافة. بالمقابل يرد بعض الإسلاميين باتهام العلمانيين بأنهم ملحدون وكفرة وعملاء للغرب ودعاة للإباحية والتحلل. وهناك ألفاظ وأوصاف أخرى خارجة يتبادلها الطرفان تصدمنى حين أطالعها فى الشتائم المتبادلة، استحى من ذكرها فضلا عن أنها مما لا يليق الاستشهاد به فى أى سياق أو منبر محترم. ولأن لغة الهجاء والسباب صارت هى الأصل، فإن الذين انتقدوا استجابة البعض لدعوة الرئيس مرسى لبحث الخروج من الأزمة الراهنة، لم يوردوا حججا موضوعية فى نقدهم، ولكن منهم من استسهل إضافة اسمائهم إلى ما وصف بأنه قائمة «العار».

 

حين خرجنا من مرحلة موت السياسة إلى انخراط الجميع وتقافزهم فى بحر السياسة، لم نجد أوعية مهيأة لاستقبال ذلك الزحف الكبير. وكان من الصعب علينا أن نجرى حوارا لم تتعود عليه. فلم يجد الناس أمامهم سوى الشوارع والميادين يخرجون إليها، وشاشات التليفزيون يصيحون عليها. وكنا فى السابق قد غضضنا الطرف عن خلافاتنا لأن السلطة المستبدة كانت خصما مشتركا. ولم ننتبه إلى أن تأجيل تلك الخلافات كان فى حقيقته «هدنة» موقعة ضمنا، وليس اقتناعا بضرورة العيش المشترك والتمسك بأهداب السلم الأهلى. وحين سقط ذلك الخصم أصبحنا فى مواجهة بعضنا البعض، فتم استدعاء ما كان مؤجلا وإيقاظ ما كان نائما أو مغيبا، فتعاركنا واستمر احترابنا إلى أن وصلنا إلى مرحلة ما عاد أحد فينا يحتمل الآخر أو يقبل به، وأصبح شعار الاقصاء مشهرا على واجهاتنا الإعلامية وفضائنا السياسى، وفى خضم الاحتراب نسينا الحلم المشترك واستسلمنا لشهوة الانتصار على الآخر حتى إذا تم ذلك على جثة المواطن.

 

تعاركنا بتبادل النعوت والاتهامات وبوابل الكلمات، وبالاعتصامات والمليونيات. ولم يكن ذلك أسوأ ما فى الأمر، لأن الأسوأ تمثل فى إحلال الغرائز محل العقل، وانخراط العقلاء فى الاستقطاب البائس الذى قسم البلد ولوث أجواءه. بالتالى فإن كل طرف لجأ إلى تخويف الآخر، وليس إلى حمله أو إقناعه. وفى هذا الخضم تم التقاذف بالأوصاف التى سبقت الإشارة إليها. ورأينا مليونية فى ميدان التحرير يرد عليها بمليونية مضادة فى ميدان نهضة مصر. ووجدنا اعتصاما أمام مقر المحكمة الدستورية، وفى مقابلة اعتصام أمام مقر الرئاسة فى قصر الاتحادية. ثم فوجئنا باعتصام احتجاجى على ما تبثه بعض الفضائيات أمام مدينة الإنتاج الإعلامى. ولم يخل الأمر من اشتباكات بالأيدى، تطورت إلى إطلاق للرصاص سقط بسببه عشرة من القتلى فى «موقعة الاتحادية» يوم الأربعاء قبل الماضى.

 

لم تعد السلطة تخيفنا، بل إن الشرطة التى ظلت تخيفنا طول الوقت أصبحت تخاف من الناس فى بعض مراحل ما بعد الثورة على الأقل، لكننا صرنا نخاف من بعضنا البعض. ورغم أن الإرهاب كله أمر مقيت لكنى صرت أخشى من إرهاب المجتمع بأكثر من خشيتى من إرهاب السلطة، إذا جاز لنا  أن نختار بين الشرين. فالسلطة كيان محدد يمكن اختصامه، فى حين أن المجتمع بحر واسع لا تعرف شخوصه. والسلطة مؤقتة وزائلة يوما ما، أما المجتمع فهو باق حتى تقوم الساعة. وإرهاب السلطة يظل إجراء مهما بلغت قسوته، أما إرهاب المجتمع فهو جزء من ثقافة خطرة تشوه أجياله وتهدد كيانه. الأمر الذى يسوغ لى أن أقول إن إرهاب السلطة مرض يصيب الجسم ولكن إرهاب المجتمع وباء يحل بالأمة وتعم به البلوى.

 

إذا صح أن ذلك التجاذب من مخلفات مرحلة الاستبداد التى شوهت قيم المجتمع ومزقت أواصره، فإن ذلك يشجعنا على أن نراهن على أمل إقامة نظام ديمقراطى يعيد للمجتمع صوابه، ويرد إلى القوى السياسية ثقتها فى بعضها البعض، ومن ثم يعيد إلى الحوار قيمته المهدرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved