شيء من شيزوفرينيا الغرب

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الجمعة 16 ديسمبر 2022 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

يبدو أن المؤسسات السياسية والدبلوماسية والإعلامية فى الغرب الأمريكى والأوروبى باتت تعانى من حالة أقرب إلى «انفصام الشخصية» فيما خص مسألة الديمقراطية.
ففى الداخل، أى فى الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبى، صار مسلما به أن الديمقراطية، كفكرة ونظمها السياسية ممثلة فى حكومات اليمين واليسار المنتخبة والمؤسسات التشريعية والقضائية المستقرة، تواجه أزمات كبرى وتحديات وجودية.
لا ترتبط تلك الأزمات والتحديات بصعود التيارات اليمينية المتطرفة والشعبوية سياسيا وانتخابيا وحسب، بل تتعلق أيضا بتراجع الإنجاز الاقتصادى والاجتماعى للحكومات الديمقراطية المنتخبة التى لم تعد قادرة على الحد إن من معدلات التضخم والارتفاعات المتتالية فى أسعار الغذاء والسلع الأساسية أو من أزمة الطاقة (خاصة فى أوروبا) أو من انزلاق مجموعات إضافية من المواطنين والمقيمين واللاجئين (وبينهم الكثير من كبار السن والأطفال) إلى الفقر. فليست العودة السياسية لدونالد ترامب ومن يؤيده هى التحدى الوجودى الوحيد للديمقراطية فى الولايات المتحدة. وليس كذلك فى وصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم فى إيطاليا والسويد أو فى استمرار النجاح السياسى لرئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان على الرغم من عدم رضاء مؤسسات الاتحاد الأوروبى عن الكثير من سياساته أو فى معدلات التأييد الشعبى المتزايدة لخطاب اليمين المتطرف الرافض للأجانب مهاجرين ولاجئين، ليس فى أى من ذلك المكون الأهم فى أزمة الديمقراطية الأوروبية.
بل يتمثل التحدى الوجودى والمكون الأساس للأزمة فى انهيار الرضاء الشعبى عن الديمقراطية ونظمها وحكوماتها على خلفية التراجع الاقتصادى والاجتماعى وانتشار انطباعات سلبية عن السياسة فى الغرب التى باتت تتهم بعدم الاهتمام بمصالح الشعوب وعن المشاركين فيها من أحزاب ونخب لا تتوقف فضائح فسادها. وليست فضيحة الفساد التى هزت أروقة الاتحاد الأوروبى قبل أيام قليلة (نائبة رئيس البرلمان الأوروبى المحتجزة راهنا على خلفية اتهامات بتلقى رشاوى من دولة قطر بهدف الترويج لمصالحها) وردود الأفعال الشعبية الغاضبة باتجاه استغلال السياسيين للمنصب العام للتربح سوى بالمثال الأحدث على هذه الحقيقة الصادمة.
• • •
انهيار الرضاء الشعبى عن الديمقراطية والانطباعات السلبية عن السياسة والمشاركين والمشاركات فيها فى الغرب، إذا، هما معا من مسببات صعود اليمين المتطرف والشعبوى، وهما معا يعتاشان على التراجع الاقتصادى والاجتماعى وفضائح الفساد. وتلك العناصر مجتمعة هى عنوان أزمة الديمقراطية داخل الولايات المتحدة وأوروبا التى لم يعد ينكرها أحد. فى العاصمة الأمريكية واشنطن، لا يمر يوم دون قيام جامعة من الجامعات أو مركز من مراكز الأبحاث الكثيرة بتنظيم محاضرة أو ندوة عن الأخطار والتحديات التى تواجهها الديمقراطيات واحتمالية تفكك مؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية وعجزها عن مواجهة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة. ولا يمر يوم دون أن تنشر كبريات الصحف الغربية مقالات للرأى تتناول بالتحليل «أزمة الديمقراطية الليبرالية» فى الغرب أو مقابلات مع مفكرين وسياسيين ومشرعين يتحدثون عن خوفهم على انهيار النموذج الغربى وعن جاذبية نماذج أخرى للحكم تبدو اليوم أكثر نجاحا اقتصاديا واجتماعيا وأوسع قدرة على ضمان الرضاء الشعبى.
هكذا يناقش الغرب فى مؤسساته السياسية والدبلوماسية والإعلامية أحوال نظمه وحكوماته، وحول تلك الخطوط العريضة تأتى اعترافاته بأزمة الديمقراطية وتحدياتها. غير أن ذات المؤسسات تتخلى عن القراءة النقدية للواقع حين الحديث عن حضور أو غياب الديمقراطية خارج الغرب، بل وتواصل التبشير بها كنموذج وحيد صالح للتطبيق العالمى وقادر على معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة. فما أن ينتقل الغرب من النظر فى شئون مجتمعاته إلى التعليق على شئون الغير إلا ويتحول من التفصيل والتفسير والتحليل والنظر الموضوعى إلى التعميم والتبشير ودعوة العالم خارج حدودهم إلى مواصلة التمسك بالديمقراطية كنموذج وحيد للحكم وإدارة شئون الدول والمجتمعات.
وحين يواجههم المتلقون من غير الغربيين بمقولات موضوعية تشير إلى أزمة الحكومات الديمقراطية فى الولايات المتحدة وأوروبا وإلى تحقيق نظم غير ديمقراطية لمعدلات تنموية مرتفعة وتحسينها السريع للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها كما هو الحال فى الصين وفى بلدان آسيوية أخرى، فإنهم يصمون آذانهم ويعاودون الكرة بحديث عن عالمية الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات. وحين يقول لهم محدثوهم من غير الغربيين أن الأمر لا يتعلق بالتشكيك فى عالمية حقوق الإنسان والحريات التى نريدها جميعا، بل فى حدود جدوى النموذج الغربى للمزج بينها وبين تحسين الأوضاع المعيشية للشعوب وتحقيق معدلات تنموية مرتفعة والحفاظ على تماسك الدول الوطنية ومؤسساتها، فإنهم يشيحون بوجوههم بعيدا عن محدثيهم فى ممارسة للاستعلاء من قبل من يعتقدون زيفا أنهم بذلك يثبتون تمسكهم بالمبادئ الديمقراطية ودفاعهم عنها.
وحين تدافع كغير غربى عن حق مجتمعك والمجتمعات المشابهة فى الجنوب العالمى عن نماذج غير غربية لتحقيق التنمية والحرية مع الحفاظ على الاستقرار والأمن أو تحلل لهم العقد الماضى فى بلاد العرب (فى شمال أفريقيا والشرق الأوسط) وأزماته الكثيرة التى سببت انهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتفسخ دول ومؤسساتها وصعود تحديات أمنية بالغة وتبنى على ذلك حتمية أن يأتى أى تحول ديمقراطى على نحو تدريجى وعبر خطوات إصلاحية تدريجية تحسن أحوال الحقوق المدنية والحريات السياسية دون أن تتجاهل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أو تهدد تماسك الدول الوطنية ومؤسساتها، فإنهم يتناسون مجددا عبر التاريخ الكثيرة عن عدم ملائمة النموذج الغربى للمجتمعات خارج الغرب ويتجاهلون نقدهم الذاتى لحكوماتهم الديمقراطية ويعودون إلى الممارسة التبشيرية ومطالبتك بالتمسك بنموذج هم أنفسهم يفكرون فى حلول لأزماته الكبرى وتحدياته الوجودية.
وحين تدفع، أخيرا، بقناعتك بكون النماذج الآسيوية فى تحقيق التنمية المتوازنة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا (أشير هنا إلى مقالات الصديق العزيز نبيل مرقس حول هذا الأمر طوال الأشهر الماضية على صفحات الشروق) تستأهل النظر والبحث والتحليل، وبكوننا تعرفنا فى بلاد العرب على أخطار التحول السياسى الفجائى الذى يعجز عن حفظ الحقوق المدنية والحريات السياسية والمزج بينها وبين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ويهدد تماسك الدول الوطنية ومؤسساتها وصرنا فى أغلبياتنا ننحو إلى تفضيل الإصلاح التدريجى والمتكامل من الداخل وفى ظل تجربة تنموية ووطنية مستقلة؛ فإن نفر من السياسيين والدبلوماسيين والإعلاميين الغربيين يتفهم ويتوقف عن ممارسة الاستعلاء باسم نموذج ديمقراطى بات مأزوما فى بلادهم هم قبل غيرهم بينما لا ينفك نفر آخر يواصل إشاحة الوجه والتشكيك فى الدوافع والنوايا ويستمر فى التبشير متجاهلا للوقائع والأحوال.
• • •
تلك هى بعض ملامح شيزوفرينيا الغرب فيما خص مسألة الديمقراطية، وهى ليست الملامح الوحيدة. بل ثمة ملامح أخرى ذات صلة بتصورات المؤسسات السياسية والدبلوماسية والإعلامية الغربية لسلوك الحكومات الديمقراطية فى العلاقات الدولية وطبيعة صراعات الولايات المتحدة وأوروبا مع القوى غير الغربية والأهمية الفعلية لمبادئ كالسيادة الوطنية ورفض أمور كالعدوان والغزو والاحتلال وحدود الانتقائية الغربية فى التعامل معها. وعن هذا سيأتى حديث الأسبوع القادم بإذن الله.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved