ثمانينية بهاء طاهر: الطاووس والكناريا

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: السبت 17 يناير 2015 - 8:10 ص بتوقيت القاهرة

ليست فيه صفة واحدة من زهو الطواويس.

من فرط التواضع فى كلماته وتصرفاته يلح عليك السؤال مرة بعد أخرى: هل يدرك هذا الرجل أن قامته لا تضاهيها قامة أخرى لأى أديب عربى آخر على قيد الحياة؟

يتحدث بصوت يكاد لا يسمع، يبتسم لما يسمع دون أن يقاطع أحدا، يتحرك على مهل كأن لا شىء ينتظره، يسأل فى أمور هو أدرى بها ممن يستطلع رأيه، يستملح السخريات المصرية ويرويها وهو يغالب ضحكه، يكتب بقلم رصاص رواياته قبل أن يعيد كتابتها من جديد مرة بعد أخرى حتى يستريح لما كتب ويرى أنه يستحق أن يطالعه القارئ ثم لا يظهر عليه أنه قد أودع لتوه المكتبة العربية شيئا يستحق أن ينفش ريشه كأى طاووس يغريه بالزهو ألوانه «الزرقاء والخضراء المرصعة بزهور من دوائر بيضاء ومذهبة.. ألوان يستحيل على أى رسام أن يجمع بينها بمثل هذا الانسجام الذى تأتلف به».

لا يخفى تأثره بنهج اثنين من أساتذته: «نجيب محفوظ» و«يحيى حقى»، فالأول وهو سيد الرواية العربية لم يكن يضيف على إنجازه الهائل أية صفة من صفات الاستثناء، يمشى فى الشوارع ويجلس على المقاهى ويحتضن شباب الأدباء، يسمع بأكثر مما يتكلم بينما كل كلمة منه تحفظها ذاكرة مستمعيه وتخلد فى المرويات الشفاهية.. والثانى هو واحد من أهم الأدباء المصريين فى القرن العشرين لكنه لم يكن مغرما بالأضواء ويفضل أن يكتب فى المجلات الأقل انتشارا إذا ما كانت أكثر جدية.

استوعب الدرس مبكرا من أستاذيه والدرس وافق طبيعته المتأملة التى تميل لطلب السلام النفسى.

غير أن ذلك كله لا يعنى أن من ساروا على هذا الدرب لا يعرفون قدر أنفسهم أو قيمة ما أسهموا به فى تاريخ الأدب العربى الحديث.

فى كل أديب أو فنان حقيقى شىء ما من زهو الطواويس، بعضه معلن بخيلاء مهرجان الألوان على الريش المنفوش وبعضه كامن لا ينفش ريشا ولا يباهى أحدا.

طبائع البشر هنا تختلف، فقد كان «يوسف إدريس» أديبا عظيما لا يباريه أحد فى فن القصة القصيرة، فهو ملكها المتوج، غير أنه لم يكن يخفى زهوه الأدبى، ونموذجه يختلف بالكلية عما نحى إليه «نجيب محفوظ» على المستويين الإنسانى والسياسى، فالأول يسارى بالتكوين الفكرى تستهويه المعارك السياسية، يعرف قدر نفسه ويجهر به، ويرى أنه يصعب أن يكون له خليفة فى فنه الروائى ويقترب بحساب من أية مواهب جديدة.. والثانى محافظ فى تفكيره لا تستهويه لغة المعارك أو ساحات الصدام ويعطى من نفسه بلا حساب للأدباء الشبان بغض النظر عن تفاوت مواهبهم.

وهو مزيج فريد له طابعه الخاص من الأديبين الكبيرين، يسارى التكوين كـ«يوسف إدريس»، انحاز إلى «جمال عبدالناصر» بعد هزيمة يونيو لا قبلها، فى اللحظة التى أوشكت راية الوطنية المصرية أن تسقط حسم أين يقف، لا تستهويه السياسة بمعناها الحزبى أو المباشر لكنه لا يتورع عن المشاركة فى أى عمل وطنى ملتزما بفكرة جوهرية تسكنه عنوانها: «مسئولية المثقف»، مضى متكئا على عصاه إلى ميدان التحرير وشارك بحماس شاب فى جميع الفاعليات التى جرت قبل يناير وبعدها من «كفاية» إلى اعتصام المثقفين فى وزارة الثقافة الذى كان رمزه الأول، وهو الاعتصام الذى مهد لـ(٣٠) يونيو بالمدفعية الثقافية الثقيلة.

بدت خطاه المتثاقلة وهو يصعد سلم الوزارة للاعتصام فيها ملهمة للمشاعر المتأججة وأعطت رسالة لجماعات المثقفين بأنه هنا وأن التاريخ يمكن أن نصنعه من جديد.

هذا كله يمكن أن يفعله «إدريس» لو أنه مازال بيننا غير أنه من طينة أخرى فهو رجل يبحث عن سلامه الداخلى مثل «محفوظ» لكن على طريقته الخاصة وهو مثل الأخير يحاول بأقصى ما يستطيع ألا يثير غيرة أحد أو حفيظة آخر ويعطى من نفسه للأدباء الشبان، يحتضن ويشجع، يقرأ ويتحمس لأية موهبة تبزغ دون ادعاء أبوة.

فى عالمه الروائى انعكاس لعالمه الحقيقى، فلسفته فى الحياة وأحلامه المجهضة وتجاربه فى المنفى.

لكل رواية عالم يخصها وفلسفة حياة وراء شخصياتها، وأى أدب بلا فلسفة تعمقه يتبدد فى فراغ الكلام بلا أثر يلهم أو قيمة تبقى.

قضيته الأساسية: أزمة الثقافة والمثقفين.

فى كل عمل زاوية رؤية جديدة بشخصيات مختلفة للقضية نفسها، كأن أعماله مرآة لقضاياه.

الأدب لا يكون عظيما إلا بقدر أن يصدر من مواهب تعرف كيف تمزج الخاص والعام، تلتقط ما هو عميق بين ركام التفاصيل الصغيرة بحثا عن معنى أو قيمة أو قضية.

شخصياته عميقة بقدر ما أتيحت له من تجارب متنوعة فى الإذاعة المصرية مذيعا ومخرجا فى البرنامج الثانى (الثقافى) ومترجما فى المقر الأوروبى للأمم المتحدة فى جنيف بعد أن اضطر للذهاب اختياريا إلى المنفى.

كما فى الحياة تماما فإن أعماله الروائية لا تثرثر ولا تطيل بغير ضرورة فنية، وعباراته ذات إيقاع شعرى، لأنه هو نفسه شاعر كامن يحفظ قصائد «المتنبى» و«شوقى» وصديقه القديم «صلاح عبدالصبور» وتطربه ملحميات صديق آخر هو «عبدالرحمن الأبنودى».

روايته «واحة الغروب» تعكس شواغله الفكرية والتاريخية بصورة مثيرة، فقد بنى الرواية كلها على تفجير معبد تاريخى قديم فى الواحات بعد الثورة العرابية بسنوات دون أية معلومات إضافية، كان يمكنه أن يوظف الواقعة دراميا على أنها عمل إرهابى لكنه كأديب حقيقى وضعها فى سياق آخر عن خيانة المثقف بعد هزيمة الثورة، فى هدم المعبد تعبير عن الضجر من عبء التاريخ وخيانات المثقفين.

لم تكن الشخصيات الأوروبية التى احتوتها أغلب رواياته، ومن بينها هذا الرواية، مقحمة على أى سياق درامى، كلها رسمت بصورة بالغة البساطة والعمق تختلف جذريا عن أية طريقة انتهجها أسلافه من الأدباء المصريين والعرب كـ«عصفور من الشرق» لـ«توفيق الحكيم» و«قنديل أم هاشم» لـ«يحيى حقى» و«موسم الهجرة إلى الشمال» لـ«الطيب صالح» و«الحى اللاتينى» لـ«سهيل إدريس».

رغم محورية أزمات المثقفين فى مجمل أعماله إلا أنها لا تلخص عوالمه، وأى أديب كبير لا تلخصه قضية واحدة ولا يحتويه عالم واحد.

وقد كانت آخر أعماله المنشورة «لم أكن أعرف أن الطواويس تطير» عالما جديدا لم يسبقه إليه أحد، غير أن نبرة اليأس بدت لافتة وموجعة.

سألته: «هل نبرة اليأس من طبيعة الدراما أم تعبير عما يجيش بداخلك؟».. وأخذت أتلو على مسامعه المقطع الأخير: «نظرت نحو الطاووس المأسور الذى كانت بعض ريشاته الملونة تبرز من ثقوب الشبكة وهو ينتفض وقلت لنفسى وأنا أنصرف يا طائرى العجوز أشباه عوادينا». والكلمتان الأخيرتان لأمير الشعراء «شوقى»، أى أننا نشبه بعضنا الآخر.

قال: «النص عن المقاومة لا اليأس وأرجوك ألا تقلق».. ثم «لا تنس أن لا شىء يفوق جمال الطواويس غير قبح أصواتها».

لهذا السبب يفضل محبوه أن ينسبوه إلى فصيلة «الكناريا» التى تسعد بجمال تغريدها دون أن تنفش ريشا.

ورغم أن كلامه عن اليأس والمقاومة لا يتماشى مع نص قصته القصيرة فإننا نحب أن نصدقه وأن ندعو عميد الأدباء العرب «بهاء طاهر» وهو يدخل عامه الثمانين أن يبدع وألا يكف عن الإبداع وأن يلهم أجيالا جديدة قدوة تصدقها ومثلا أعلى تحتذيه فى «مسئولية المثقف».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved