المجتمع المدنى وحركة «المواطنة الجديدة» فى مصر

نبيل مرقس
نبيل مرقس

آخر تحديث: الإثنين 17 فبراير 2014 - 6:35 ص بتوقيت القاهرة

ثمة حقيقة أساسية تتبدى لنا من خلال قراءة وفحص وقائع التاريخ المصرى الحديث ــ يبرزها لنا أستاذنا الراحل د. وليم سليمان قلادة ــ وهى أن خطا أفقيا حاسما يقسم المجتمع المصرى التقليدى بجميع تنويعاته الاجتماعية والثقافية والطبقية إلى شريحتين أساسيتين إحداهما أعلى هذا الخط الفاصل، حيث يجثم «الحكّام» متمسكين بأسانيد شرعيتهم المرتبطة بقدرتهم على إخضاع «المحكومين» وتبرير بقاء السلطة فى أيديهم واستمرار تداولها فيما بينهم دون اعتراض ملموس من جماهير»المحكومين». وتستمر عملية إنتاج وإعادة إنتاج مشروعية نظام الحكم طبقا للنظم والقواعد والإجراءات التى استندت إليها الطبقة الحاكمة لدعم وتأييد مراكزهم وتحالفاتهم فى إطار السلطة الحاكمة باستخدام القانون والتشريع وأجهزة الثقافة والإعلام، بما يطلق عليه د وليم سليمان إجمالا تعبير «فقه الحكام». بينما يقبع أسفل حاجز السلطة جماهير «المحكومين» من أهل الأرض ــ بتعبير عمرو بن العاص ــ حيث يتراكم لديهم الشعور بالقهر والظلم والعجز عن اختراق حاجز السلطة المنيع الذى يفصلهم عن حكامهم، ويتزايد لديهم التصميم والعزم على تنظيم صفوفهم وحركتهم الساعية لاختراق هذا الحاجز على قاعدة العدالة والمساواة، ويحاولون تطوير أدواتهم الجديدة لخلق ثقافة مضادة تناهض «فقه الحكام» وتسعى لتجاوزه ثوريا وإصلاحيا فى اتجاه ما يطلق عليه د.وليم سليمان تعبير «فقه المحكومين».

•••

وفى سياق هذا الجدل التاريخى بين «فقه الحكام» و«فقه المحكومين» سعت عناصر «الطبقة الوسطى الحديثة» فى المدن الكبيرة فى مصر وتونس مؤخرا والتى لعبت دورا مهما وطليعيا فى سياق أحداث ما اصطلح على تسميته بظاهرة «الربيع العربى»، سعت لخلق حيز مستقل للتعبير السياسى والمشاركة الفعّالة فى العمل العام بعيدا عن هيمنة بيروقراطية الدولة وبعيدا عن متناول أدوات القمع والإخضاع المستندة إلى «فقه الحكام». وأضحى الواقع الافتراضى الجديد المعتمد على تكنولوجيا الاتصال الاجتماعى المستحدثة من خلال صفحات الفيس بوك، مواقع اليوتيوب، المدونات الشخصية والتغريدات الحرة، بالإضافة إلى الاتصال المباشر بحركات الاحتجاج الاجتماعى والسياسى المتمثلة فى حركات كفاية وشايفينكم وشباب 6 أبريل وشباب من أجل العدالة والحرية وجماعة تضامن والحملة الشعبية من أجل التغيير واللجنة القومية للدفاع عن أموال التأمينات وحركة الاشتراكيين الثوريين وحركة 9 مارس وحركة أطباء بلا حقوق وغيرها، أضحى ذلك كله تعبيرا واضحا عن الجبهة السياسية والشعبية الواسعة التى تجسد ملامح «فقه المحكومين» والساعية ــ منذ عدة سنوات سابقة لأحداث الربيع العربى ــ لمقاومة التحالف المرئى والبادى للعيان بين مشروع «التوريث السياسى» لنجل الرئيس فى مصر ولأسرة زوجة الرئيس فى تونس وبين ما اصطلح على تسميته فى البلدين بظاهرة «رأسمالية المحاسيب». وهى تلك الظاهرة التى تسللت إلى دهاليز رأسمالية الدولة البيروقراطية فى مصر فى العصر الناصرى مستندة إلى علاقات ولى النعمة/ التابع ثم استقرت أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والطبقية مع انطلاق سياسات الانفتاح الاقتصادى وتصاعد عمليات الخصخصة وتخصيص الأراضى وقروض المجاملة وتدوير أموال المعونات الأجنبية وعمولات عقود البنية التحتية والاتجار بالوظيفة العامة من خلال العمولات والإتاوات والصفقات لتتبلور وتكتمل ملامحها فى حماية «الدولة العميقة» فى عصرى السادات ومبارك.

وبينما تمثل كتابات الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى فى تأصيل فكرة الحريات والحقوق العامة فى الدولة الحديثة والربط بين التمدن والحرية (فجعل التمدن سببا من أسباب الحرية والحرية شرطا من شروط التمدن والتقدم)، وأيضا كتابات الإمام الشيخ محمد عبده ودعوته إلى الإصلاح الدينى وتحديث الأزهر وتجديد الفكر السياسى والاجتماعى بالإضافة إلى الإصلاح القضائى والتعليمى واللغوى والتربوى ومشاركته بالتعاون مع مصطفى كامل وسعد زغلول وقاسم أمين وأحمد لطفى السيد فى إنشاء جامعة القاهرة فى 1908، وأيضا سعيه الجاد لتعديل شروط الاستبداد الملكى القائم (فى عصر الخديوى عباس حلمى الثانى فى 1892) من خلال إتاحة الفرصة لعناصر الطبقة الوسطى المدينية الصاعدة لتأسيس قواعدها المؤسسية الحديثة، مثل صالون الأميرة نازلى فاضل الثقافى والجمعية الخيرية الإسلامية ونقابة المحامين والحزب الوطنى المصرى لتصبح هذه المؤسسات والمبادرات والدعوات فى بدايات القرن العشرين (بما فى ذلك الكتابات التى تدعو إلى فك شفرة التقدم الغربى والبحث عمّا يعوق مصر عن اللحاق بالعصر الحديث، مثل كتاب محمد عمر فى 1902 عن «حاضر المصريين وسر تأخرهم» وترجمة أحمد فتحى زغلول فى 1899 لكتاب ادمون ديمولان «سر تقدم الإنكليز السكسونيين»)، الإطلالة الأولى لمشروع الحداثة المصرى والصياغة الجنينية لأفكار وممارسات المجتمع المدنى الحديث فى إطار ما اصطلح على تسميته بـ«السياسة من أعلى». بينما تمثل الحركات الاحتجاجية السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة فى بدايات القرن الحادى والعشرين فى سياق «التحرك الثورى» لمقاومة مشروعى «التوريث السياسى» والهيمنة الاقتصادية والاجتماعية لرأسمالية المحاسيب وامتداد تلك الحركات إلى الفضاء الإلكترونى فى أشكال جديدة مثل صفحة «كلنا خالد سعيد» وحملة دعم البرادعى والدعوة إلى إضراب 6 أبريل 2008 فى المحلة، يمثل كل ذلك نواة ما اصطلح على تسميته بحركة «المواطنة الجديدة» التى خرجت من رحم المجتمع المدنى الجديد فى مصر المتشبث بفقه المحكومين والمرتبط بالسياسة من أسفل فى مواجهة «فقه الحكام» و«السياسة من أعلى».

•••

إن ثورة 25 يناير 2011 وموجتها الثورية الصاعدة فى 30 يونيو 2013 وما بعدها، ما زالت تبحث عن مواقعها وحضورها الواضح فى ممارسات وترتيبات إعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة فى مصر «من أسفل إلى أعلى»، استلهاما لنماذج التحول الديمقراطى فى أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية حتى يصبح المجتمع المدنى وقياداته الوطنية الواعية رأس حربة فى اتجاه بناء التحالف المدنى الواسع المناهض للاستبداد والمبشر بملامح المجتمع الديمقراطى الجديد فى إطار «فقه المحكومين». ذلك المجتمع الذى يزيل التابوهات التى فصلت تاريخيا بين «العمل الأهلى» و«العمل السياسى» ورسخت تقاليد تحاشى الاقتراب من ساحة العمل العام وجعلتها حكرا على السياسيين المحترفين الخاضعين لسلطة الدولة المركزية وهيمنتها المطلقة على ساحة العمل العام. فهو يقدم نوعية جديدة من العمل التنموى الذى يمزج بين عملية التغيير الاجتماعى على المستوى القاعدى والمحلى وقيم ومبادئ وممارسات التحول الديمقراطى على المستوى القومى، وهو يدمج الفعل التنموى المرتبط بهموم المواطنين وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية المهدرة بقضايا المساءلة والمحاسبة الديمقراطية والمشاركة فى صنع القرار. ويسهم بالتالى فى صنع العلاقة الجديدة بين المواطن والمسئول وأيضا بين سلطة الدولة المركزية النازعة إلى الاستبداد والمجتمع المدنى الجديد الثائر على الاستبداد والراغب فى بناء الدولة الوطنية الحديثة من أسفل إلى أعلى، والذى يأمل على المدى البعيد فى إزاحة «فقه الحكام» واستبداله تدريجيا بـ«فقه المحكومين» الذى يعبر عن مجمل التكوينات الثقافية والاجتماعية والجهوية وجميع أطياف العمل الوطنى فى مصر دون استبعاد أو إقصاء لأى تكوين أو فصيل أو تيار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved