قصص على هامش السيرة الذاتية لا شىء أغرب من الناس

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الثلاثاء 17 فبراير 2015 - 1:00 م بتوقيت القاهرة

لدى الإنجليز مثل شعبى يمكن ترجمته إلى «لاشىء أغرب من الناس» nothing is as queer as folk، وأستطيع أن أضم صوتى إلى الانجليز فى هذا الاعتقاد، إذ يدهشنى عدد الناس الذين أعتبرهم الآن ألغازا يصعب فهمها. بل أستطيع أن أذهب إلى حد القول بأنه حتى من بين أقرب الناس إلىَّ من ألاحظ أننى كلما اقتربت منهم أكثر، وعرفتهم معرفة أوثق، يزداد شعورى بأنهم ألغاز لم أفهمها بعد، وأن لدى كلا منهم سرا لم أفطن إلى مكنونه بعد.

خذ مثلا أخى عبدالحميد، الذى توفاه الله عن واحد وثمانين عاما، وكان طوال حياتى من أحب الناس إلىَّ، كلما فكرت فيه الآن، وفى تطور حياته من نجاح باهر وسعادة غامرة، إلى انهيار عصبى تام ومتاعب نفسية جسيمة، لم يخرج منها حتى وفاته، انتهيت إلى اعتباره هو أيضا لغزا من الألغاز التى لم أهتد إلى حل لها بعد.

كان عبدالحميد، من بيننا نحن الأخوة الثمانية، أكثرنا شبها بأبى، فى الشكل والذكاء والحس الأخلاقى لدى بعض الصور لأبى ولعبدالحميد عندما كان كل منهما فى نحو الخمسين من عمره، فأكاد لاأستطيع تمييز أحدهما عن الآخر، وعندما أذكر ذكاء عبدالحميد لاأقصد مجرد حصوله على الدكتوراه بسهولة فى الهندسة الكهربائية من جامعة لندن، وتأثير أساتذته عليه، ثم حصوله على دكتوراه أخرى من ألمانيا بسهولة أيضا، فى أحد فروع علم الطبيعة، ولاأقصد ما كان يصدر منه من حين لآخر من ملاحظات ثاقبة وعميقة، بل أقصد على الأخص ميله إلى الربط بين أشياء لاتبدو هناك لأول وهلة رابطة بينها، وبحثه الدائم عن نظرية عامة تربط وتفسر. وقد تبدو بعض نظرياته مفرطة فى الخيال، ولكنها كانت دائما جذابة وشاحذة للفكر.

أما حسه الأخلاقى فحدث عنه ولاحرج، إذ ما أكثر الأمثلة على ذلك فى أبسط الأمور وأهمها. كانت لديه حساسية طبيعية ضد الكذب، ومن ثم لم يكن يخامر أحد منا أى شك فى أن ما يقوله عبدالحميد هو الحقيقة دائما. انه لايغش احدا، لا أساتذته إذا قدم لأحدهم بحثا، ولاتلاميذه، إذا قرر من الناجح منهم أو الراسب، ولا يورطك فى الإنفاق على شىء يعرف أن من الواجب أن ينفق هو عليه، ولايحاول قط أن يحصل من شىء أكثر من حقه.. الخ.

مما أذكره من تصرفاته الدالة على هذا الحس الأخلاقى القوى، ما فعله مرة فى الستينيات من القرن الماضى، فى فترة صعبة بسبب التدخل الشديد من جانب الدولة البوليسية فى حياة المصريين. كانت الدولة قد أصدرت قانونا بتجميد إيجارات المساكن، فلم يعد بقدرة المالك أن يزيد قيمة الإيجار مهما مر الزمن وزاد الطلب وأصبحت قيمة الايجار تافهة جدا بالمقارنة بالقيمة الحقيقية للمسكن. كان من الطبيعى ــ والحال كذلك ــ أن يلجأ مالك البيت أو الشقة، كلما جاء إليه ساكن جديد، أن يطلب منه مبلغا من المال قد بلغ عدة آلاف من الجنيهات باعتباره «خلو رجل» كوسيلة لتعويض المالك عن انخفاض الإيجارلمدة طويلة. كان المستأجر الجديد كثيرا مايدفع هذا المبلغ عن طيب خاطر، إذ كان البديل عن ذلك، العجز عن العثور على مسكن على الإطلاق

دفع أخى عبدالحميد مبلغا كبيرا من المال (بمقاييس ذلك الزمان) للحصول على شقة جميلة فى الزمالك بشارع مهم، وبإيجار زهيد للغاية، ثم حدث أن أصدرت الحكومة قرارا جديدا يمنع المالك من تقاضى أى خلو رجل، إمعانا فى محاولة كسب رضا المستأجرين، على الرغم من تعارض هذا القرار مع مقتضيات الواقع الاقتصادى السائد حينئذ. لم تكتف الحكومة بذلك بل عمدت إلى معاملة الملاك الذين يثبت أنهم تقاضوا خلو رجل معاملة قاسية للغاية، فشهرت بهم وأودعت بعضهم السجن، مما أثار خوفا شديدا لدى الملاك فهرعوا يعيدون إلى المستأجرين، ماسبق أن قبضوه منهم من أموال، ذهب مالك العمارة التى يسكن فيها عبدالحميد إليه، ومعه المبلغ الذى سبق لعبدالحميد دفعه كخلو رجل، فإذا بعبدالحميد يرفض استرداد المبلغ بلا أى تردد، قائلا: إنه دفع المبلغ بطيب خاطر دون أن يرغمه أحد على ذلك، فلا يرى الآن وجها لاسترداده. قال له المالك وقد اعترته دهشة شديدة إنه الوحيد من بين جميع سكان العمارة الذى تصرف على هذا النحو.

كان عبدالحميد يتوقع من الناس أن يعاملوا معاملة مماثلة، ومن ثم كان يستاء بشدة إذا بدر من أحد أخوته أى تصرف ينطوى على استغلال أو سوء نية، ولكنه كان أيضا، والحق يقال، كثيرا ما كان يبدو عاجزا عن الدفاع عن حقوقه. كان يبدو دائما ولايزال يبدو لى كلما عدت إلى التفكير فيه، أضعف إرادة وأقل تصميما على تحقيق رغباته من بعض الأخوة الآخرين، بقدر ما كان هؤلاء أضعف من عبدالحميد فى حسهم الأخلاقى. وأعترف للقارىء بأننى كثيرا ما أتساءل عما إذا كانت ثمة علاقة بين الصفتين، ضعف الإرادة وقوة الحس الأخلاقى. نعم، لقد صادفت فى حياتى أشخاصا، أو قرأت عن أشخاص، يجمعون بين هاتين الصفتين الطيبتين، قوة الإرادة وقوة الحس الأخلاقى، ولكنهم كانوا فيما بعد ولى قلة نادرة، والأكثر شيوعا هو أن تأتى إحدى هاتين الصفتين الطيبتين على حساب الأخرى.

كنا نجلس يوما حول مائدة الطعام، وأمامنا طبق عليه بضع بيضات مقلية، وكنا نمد أيدينا، الواحد بعد الآخر، بقطعة من الخبز لنلتقط من الطبق ما نأكله. لاأذكر هذه الواقعة بوضوح ويبدو أن معرفتى بها كان مصدرها السماع وتكرار ذكر القصة بين أفراد العائلة لعدة سنوات بعد وقوعها، حتى أصبحت من «تراث» الأسرة. كان عبدالحميد من بين ثلاثة أو أربعة من الأخوة يجلسون أمام طبق البيض (إذ لم نكن تعلمنا بعد أن يكون لكل منا طبق خاص به، وأن يكون تناول الطعام بالشوكة أو الملعقة بدلا من قطعة الخبز). كانت أمى جالسة أيضا معنا تشاركنا الطعام أو ترقبنا، فإذا بها تلاحظ أن عبدالحميد جالس لا يمد يده لتناول الطعام، بينما الآخرون منهمكون فى الأكل. سألته أمى عن السبب، فجاءت إجابته المذهلة الآتية، والتى أخذت العائلة ترددها على مر الزمن مع الاستغراق فى الضحك، كلما تطرق الحديث إلى شخصية عبدالحميد وطباعه.
قال ردا على والدتى: «أصلى مش طايل طبق البيض!».

حسنا، فليكن طبق البيض أبعد قليلا من متناول يده، فلماذا لا يبذل جهدا لتقريبه إليه، مادام لايزال راغبا فيه؟

•••

عندما ذهبت وأنا فى السادسة عشرة من عمرى إلى لندن لقضاء عطلة الصيف السابق مباشرة على دخولى الجامعة، فأزور خلالها اخوين لى كانا فى لندن فى ذلك الوقت، وكان أبى حريصا على أن أقوم بهذه الزيارة لتقوية لغتى الإنجليزية، بسبب ما عاناه هو فى تعلمها على كبر. كان عبدالحميد يحضر للدكتوراه فى جامعة لندن، فأقمت معه فى البيت نفسه لمدة شهرين بدا لى عبدالحميد خلالها (وكان فى الخامسة والعشرين من عمره) شابا فى غاية المرح والتفاؤل بالحياة. كانت كل أموره تسير على ما يرام فى الدراسة تتقدم بخطى حثيثة، وأساتذته راضون عنه رضا تاما، وصحته جيدة، ولا يشكو من ضائقة مالية، ولديه صديقة نمساوية جميلة، يحبها وتحبه، وقد تزوجها بمجرد حصوله على الدكتوراه، فلم يخلف بوعده لها. كان أيضا شابا وطنيا، يشترك فى بعض الاجتماعات التى كان يعقدها من حين لآخر الطلبة المصريون احتجاجا على تصرفات الملك ورجاله فى الشهور القليلة السابقة على ثورة ١٩٥٢. ولكنه لم يكن شيوعيا أو اشتراكيا او عضوا فى أى جماعة سياسية أو دينية. رجل من هذا النوع، كانت كل الدلائل تبشر بمستقبل جيد وحياة ناجحة، لماذا إذن تتعثر حياته بتلك الدرجة المذهلة، وتتتابع عليه المشكلات العويصة بل والمصائب، من قبل أن يبلغ الأربعين من عمره؟ هذا هو ما سأحاول العثور على تفسير له فى المقال القادم دون جدوى فى الغالب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved