حلقة أخرى في انفراط عقد الهيمنة الأمريكية

عزت سعد
عزت سعد

آخر تحديث: الخميس 17 فبراير 2022 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

 

مع إطلالة العام الجديد، أطلقت كوريا الشمالية سلسلة من التجارب الصاروخية، بلغت ثلاث، وأوردت وكالات الأنباء، عن رئيس هيئة الأركان الكورى الجنوبى أن الصواريخ من نوع «هوا سونج ــ 12» الأرض ــ أرض المتوسطة والطويلة المدى، وأن التجارب هى الأقوى منذ عام 2017. حيث حلق الصاروخ الباليستى الذى أطلق فى تجربة 5 يناير الماضى لأكثر من 700 كم على ارتفاع 60 كم وبسرعة تبلغ عشرة أضعاف سرعة الصوت. وأفاد خبراء أنه من الناحية النظرية، يمكن لهذا النوع من الصواريخ أن يصل إلى جزيرة «جوام» حيث توجد قاعدة عسكرية أمريكية ومخزونات أسلحة نووية.
قد أدانت التجارب كل من الولايات المتحدة الأمريكية والأمين العام للأمم المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية. وحذرت هذه الأخيرة جارتها الشمالية من أن استمرار إطلاق صواريخها الباليستية هو انتهاك واضح لقرارات مجلس الأمن الدولى، وأنه عليها وقف إطلاق هذه الصواريخ فورا، والتى تشكل تهديدا كبيرا للسلام والأمن، ليس فقط فى شبه الجزيرة الكورية ولكن العالم بأسره. ولم تكتف واشنطن بالإدانة، حيث دعت مجلس الأمن الدولى إلى اجتماع طارئ فى أواخر يناير الماضى لاتخاذ موقف من مواصلة كوريا الشمالية أنشطتها «غير القانونية والمزعزعة للاستقرار». وفى ضوء إدراكها صعوبة الحصول على دعم جميع الدول الأعضاء فى مجلس الأمن ــ الدائمة وغير الدائمة ــ اضطرت واشنطن إلى إصدار بيان ــ أيدتها فيه دولتان من الأعضاء الدائمين هما فرنسا والمملكة المتحدة ومثلهما من الدول غير الدائمة هما ألبانيا وأيرلندا، إلى جانب اليابان ــ يدعو إلى الانخراط فى «حوار ذى مغزى نحو هدفنا المتمثل فى نزع السلاح النووى بالكامل، بما يتفق مع قرارات مجلس الأمن». وذكرت المندوبة الأمريكية لدى المنظمة، التى تلت بيان الدول الست: «نشجع مجلس الأمن على وحدة الصف فى معارضة تصرفات كوريا الديمقراطية الشعبية المزعزعة للاستقرار وغير القانونية، داعية كل الدول إلى الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالعقوبات بموجب قرارات مجلس الأمن»، وحث كوريا الشمالية على تغليب الحوار والسلام على برنامج أسلحتها غير القانونى والمهدد للاستقرار.
وكان مجلس الأمن الدولى قد أصدر تسعة قرارات رئيسية بفرض عقوبات على كوريا الشمالية ردا على أنشطتها النووية والصاروخية منذ عام 2006، كان آخرها القرار 2379 (2017). والمهم هنا أن كل هذه القرارات التسعة صدرت بالإجماع، وفى إطار الفصل السابع من الميثاق المتعلق بتدابير القمع الواجب على جميع الدول الالتزام بها، باستثناء قرار وحيد هو القرار 2087 الصادر فى 22 يناير 2013، الذى صدر بعد طلاق ناجح للأقمار الصناعية الكورية الشمالية فى 12 ديسمبر 2012، وكان الإطلاق انتهاكا لقرارين سابقين للمجلس هما: 1718/ 2006 و1874/ 2009 اللذين حظرا أى تطوير آخر للتكنولوجيا ينطبق على برنامج الصواريخ الباليستية فى كوريا الشمالية.
وقد عاودت الولايات المتحدة مساعيها لعقد جلسة لمجلس الأمن على أمل إصدار قرار مماثل يدين تجارب كوريا الشمالية الصاروخية. وبالفعل عقد المجلس اجتماعا مغلقا فى 4 فبراير الجارى ــ هو الثالث للمجلس خلال أقل من شهر ــ تحت رئاسة روسيا الاتحادية. غير أن الاجتماع لم يسفر عن أى شىء، لا قرار ولا حتى بيان رئاسى. وكما فعلت واشنطن قبل أسبوعين، حشدت دعم سبع دول فقط هى الدول الأربع السابق الإشارة إليها، ومعها اليابان، بجانب كل من النرويج والإمارات والبرازيل؛ حيث أصدرت بيانا مشتركا أدانت فيه التجربة.
أما الصين، التى رفضت الانضمام إلى واشنطن على خلاف ما كان عليه الحال منذ عام 2006 وحتى عام 2017، فلم تكن وحدها حيث اتخذت كل من روسيا والهند (نعم الهند) والمكسيك وثلاث دول إفريقية هى كل من الجابون وكينيا وغانا، الموقف ذاته. وفى مؤتمر صحفى، أكد سفير الصين لدى الأمم المتحدة فى نيويورك أن مفتاح حل قضية برامج الصواريخ الباليستية والنووية لكوريا الشمالية «فى يد» الولايات المتحدة، مطالبا واشنطن بإظهار «المزيد من الصدق والمرونة إذا كانت تريد تحقيق انفراجة». وذكر السفير موجها حديثه إلى الأمريكيين: «يجب أن يطرحوا اقتراحات أكثر جاذبية وأكثر واقعية وأكثر مرونة، وسياسات وإجراءات مماثلة لتهدئة مخاوف جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية».
ووفقا لتسريبات دبلوماسية، نقلا عن وكالة الأنباء الفرنسية، فقد رفضت كل من الصين وروسيا والدول الأخرى المساندة لموقفهما اعتماد مشروع قرار أمريكى يدين التجارب الصاروخية لكوريا الشمالية. كما عرقلت الصين مسعى أمريكيا فى يناير الماضى بتبنى عقوبات فردية فى مجلس الأمن تستهدف كوريين شماليين. فى المقابل أجهضت الولايات المتحدة محاولة صينية روسية فى مجلس الأمن، قبل أكثر من عام، لتبنى قرار يهدف إلى تخفيف العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على كوريا الشمالية التى تعانى من ضغوط اقتصادية كبيرة ارتباطا بتفشى «وباء كوفيد ــ 19».
• • •
ومن المهم الإشارة إلى أن كوريا الشمالية أعلنت انسحابها من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية عام 1993، ثم أعلنت للعالم، فى أواخر عام 2017، أنها أوفت بطموحاتها التى طال انتظارها فى أن تصبح قوة نووية. وفى غضون تلك الفترة، وخلال وجود دونالد ترامب فى البيت الأبيض، أجرت بيونج يانج ست تجارب نووية واختبارين للصواريخ الباليستية العابرة للقارات. وقدر الخبراء آنذاك أنها أرادت توجيه رسالة واضحة لواشنطن بأنه، من الناحية الفنية، كانت لديها القدرة على ضرب الولايات المتحدة برأس حربى نووى، ومن ثم شعر الزعيم الكورى الشمالى كيم يونج أون بالأمان، وأعلن أن بلاده قوة نووية كأمر واقع، ومن ثم فهو فى وضع يسمح له بتحديد السياسة الواجب اتباعها تجاه الولايات المتحدة، وبعد ذلك، انتقل كيم إلى المرحلة الثانية من علاقته بواشنطن: الحوار والمفاوضات. وفى هذا السياق استحوذت قمة سنغافورة فى يونيو 2018 مع ترامب على اهتمام العالم. وكانت قمة ناجحة، من وجهة نظر كيم على الأقل. ومن جانبه عرض ترامب دعم واشنطن الاقتصادى مقابل نزع الأسلحة النووية من كوريا الشمالية.
وكجزء من استراتيجية أوسع وضعها الرئيس الكورى الشمالى بعد إعلان بلاده قوة نووية، بدأ فى التواصل مع جارته الجنوبية ومحاولة خلق صورة جديدة وإيجابية لنفسه، كزعيم يحظى باحترام عالمى وقادر على الدخول فى مفاوضات مهمة وتحقيق أهداف حاسمة لبلاده. وتعزز هذا التوجه عام 2018، عندما توالت قمم كيم مع نظيره الكورى الجنوبى، ثم مع نظيره الصينى وشخصيات دولية أخرى، واجتمع مع الرئيس ترامب فى سنغافورة. ونُظر إلى كل هذه القمم على أنها نجاح باهر للاستراتيجية الكورية الشمالية الجديدة. واستمرت فترة شهر العسل فى العلاقات بين الكوريتين حتى نهاية عام 2018، التى شهدت ثلاثة مؤتمرات قمة بين الزعيمين الكوريين وصدور إعلانين بدأت معهما عملية حوار تعاون بين البلدين.
ومع ذلك، كان على كيم أن يختار: إما التنازل عن أجزاء من برنامجه النووى مقابل رفع العقوبات بما يسمح بتنمية بلاده اقتصاديا، أم سيمضى قدما فى برنامجه النووى؟. الواقع أنه بعد فترة وجيزة من توليه رئاسة بلاده، وعد كيم شعبه بتحسين الأوضاع الاقتصادية، إلا أنه اختار فى النهاية السلاح النووى كرادع ضد أى محاولات أمريكية لتغيير النظام. وكشفت قمة هانوى مع ترامب فى فبراير 2019 أن الزعيم الكورى الشمالى يفضل الأسلحة النووية على علاقات طيبة مع الولايات المتحدة، والتخفيف المحتمل للعقوبات. وبإيجاز، وفى تقدير مراقبين غربيين، ما يزال كيم يخشى أن تصبح كوريا الشمالية هى القادمة، على شاكلة العراق أو ليبيا، وهو نفس الهاجس الذى يراود النظام الإيرانى منذ عام 1979 وحتى الآن.
• • •
والخلاصة هى أن المتأمل لما جرى فى مجلس الأمن قبل أيام حول قضية التجارب الصاروخية الكورية الشمالية، خاصة فشل الولايات المتحدة فى حشد دعم دولة مثل الهند، المصنفة خصما استراتيجيا للصين، إلى جانبها، فضلا عن ثلاث دول إفريقية، بعض عواصمها محطات دائمة لزيارات كبار المسئولين الأمريكيين، بجانب دولة جوار مباشر (المكسيك)، حيث اختارت الدول الخمس الاصطفاف مع بكين وموسكو، لابد وأن يدرك عمق ما يحدث من تحول فى ميزان القوى فى النظام الدولى، المفترض أن الولايات المتحدة تقوده حتى الآن. والملفت هنا أنه كثيرا ما تفخر واشنطن بقدرتها الجبّارة على حشد الحلفاء والشركاء كأداة فاعلة ودعامة أساسية لسياستها الخارجية، وميزة رئيسية تتمتع بها فى مواجهة منافستها الاستراتيجية الصين.
إن ما حدث فى مجلس الأمن حول كوريا الشمالية يؤشر لعهد جديد تتغير فيه ــ على أرض الواقع ــ نظرة الصين للعلاقات الدولية واستعدادها لتحمل المخاطر، على خلاف مواقفها الحذرة فى السابق. وفى المقابل، فإن الإرث الكارثى للسياسة الخارجية لإدارة ترامب قد وضع إدارة بايدن فى موقف لا تحسد عليه، وتركت أمامه خيارات محدودة. فقد أهدر ترامب سنواته الأربع فى حملات «أقصى ضغط» لحث كوريا الشمالية، وإيران، على التخلى عن المزيد من التطوير النووى دون جدوى. كذلك ورث بايدن نظاما سياسيا يترنح من أحداث 6 يناير والآثار الاجتماعية والاقتصادية لوباء كوفيد ــ 19، فى وقت يزداد فيه نفوذ الصين وروسيا. وأثق أن كل ذلك حاضر بقوة فى فكر القيادة الإيرانية الجديدة، وفريقها التفاوضى فى فيينا، حيث تسير طهران بوضوح على خطى بيونج يانج، رغم أنها كانت أكثر التزاما منها بشأن منع الانتشار النووى ولا تزال طرفا فى المعاهدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved