عن «الشرهات» وعرق الفقراء والمتعبين: لمن الثروة فى الوطن العربى.. وأين تُنفق؟

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 18 مارس 2020 - 12:11 م بتوقيت القاهرة

العالم صغير، حتى إن جرثومة متنقلة أثبتت أنه «واحد» فى وجوده، وإن تعددت الأنظمة السياسية.
إنه أصغر من جرثومة صغيرة: مثل الكورونا..
وهى جرثومة ترفض العنصرية، والتمييز الطبقى، وتساوى بين الناس جميعا، لا فرق بين عربى وأعجمى، وبين غنى بمليارات الدولارات وفقير لا يجد قوت يومه، بين ملك بقوة النسب المُذَهبْ ورئيس منتخب بقوة سلاح شعبيته.
كذلك فهى «فضائحية» لا يمكن إخفاؤها أو التستر عليها.
ولقد افتقد «العرب» تضامن أنظمتهم، الملكية منها والجمهورية وحتى الأميرية فى مواجهة هذا الوباء الذى لا يرحم، والذى ينتقل بسرعة الهواء بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وبين إيران والسعودية.. وبين غرفة النوم وصالون التشريفات.
كل «دولة» واجهت الوباء «باستقلال» عن سائر «الأشقاء»..
هل يدل هذا على انفراط عقد العرب، بدولهم، وضرورة الاعتراف بوفاة جامعة الدول العربية، أخيرا بضربة الاعتراف بالكيان الإسرائيلى والعجز عن وقف «طموح العدو» إلى توسيع «مملكته الصهيونية» طالما ظل الأقوى من مجموع العرب.
***
دلت جرثومة الكورونا على أن الإنسان كائن هش، يتهاوى جبروته وتتلاشى ادعاءاته أمام بعوضة أو ذبابة تختزن السم فى أجنحتها وتنشرها فى الهواء.
.. وبررت للانفصاليين من قادة العرب، ملوكا وأمراء ورؤساء بمدد مفتوحة إقفال حدودهم أمام الأشقاء وكأنهم يحملون، وحدهم، خطر العدوى.
لا تضامن ولا اتحاد ولا توحد حتى فى مواجهة خطر العدوى التى قد تقود إلى الموت: صارت الحدود سدودا هشة أمام هذا الاجتياح الطارئ الذى لم يتحسب له أحد، وهو قد باغت الجميع فافتقدوا الدواء الشافى.
بالمقابل، ثبت أن المنظمات المعنية بصحة الناس، عربيا بالدرجة الأولى ودوليا بالتالى، تنام ملء جفونها وتسترخى إلى افتراض أن الدنيا بألف خير، وأن وزارات الصحة فى أربع رياح الأرض (لا سيما فى دنيا العرب)، جاهزة ومتيقظة لأى خطر أو وباء.. وجاء هذا الكورونا الخبيث يكشف غفلتها، فإذا هى تتخبط خبط عشواء، ولا منقذ إلا الدعاء والابتهال إلى الله جل جلاله.
***
فى الحكايات أن الخليفة العادل عمر بن الخطاب كان لا ينام الليل حتى يُنهى جولته المقررة على بيوت الفقراء، يطمئن إلى صحتهم، ينقذ الجائع من جوعه، ويأمر بعلاج من به علة. وأنه عندما انتقده بعض صحبه على أنه قد اقتطع من القماش المتوافر فى مخازن الخلافة أكثر مما ينال غيره، نادى نجله وقال أمامه: لقد أعطانى نصيبه لكى يكتمل ثوبى.
وفى الحكايات عن السلف الصالح أيضا أن الإمام على بن أبى طالب كان لا ينام حتى يطمئن إلى أن الناس قد سكن جوعهم فشبعوا وناموا.. وأنه كان يجول ليلا وقد حمل كيسا من الخبز يرمى منه أمام بيوت الفقراء ما يمنع عنهم غائلة الجوع.
وفى الأقوال المأثورة إنه ما جاع جائع إلا بما أترف الغنى به نفسه..
... وها هى أمة الفقراء، أى الأكثرية المطلقة من الثلاثمائة مليون عربى، تعانى من الجوع والأمراض السارية، بينما أهل النفط والغاز يقيمون، وأكثر من مرة يوميا، المائدة العامرة بالخراف المذبوحة وأصناف السمك، والدجاج أو البط أحيانا، بينما الفقراء ينتظرون خلف الأبواب، فى انتظار أن ترمى إليهم الفضلات الدسمة، فيأكلون حتى التخمة وينطلقون إلى خدمة من أطعمهم ــ بغير رغبة، وبغير قصد ــ ثم... يشكرون الله على نعمه!
***
إن فى الوطن العربى مئات الملايين من الفقراء، ينتشرون بامتداد صحاريه، فى المدن والقصبات والقرى، وفى مرابع اللهو، ومخيمات اللاجئين الهاربين من بلادهم المجوعة، إلى حيث يمكنهم العيش فتتوفر لهم اللقمة الحلال، وفراش ينطوون عليه بعد نهارات التعب.
وأهل النفط والغاز من حكام العرب يبيحون ثرواتهم الهائلة للمهيمن الأجنبى (وهو الأمريكى فى الغالب الأعم وضمنه، بالقطع، المحتل الإسرائيلى..).
أما بقية العرب ممن لم تمن عليهم المقادير بالنفط أو بالغاز، فهم يكيفون حياتهم، ويجهدون ويبذلون عرق الجباه من أجل أن يوفروا لأبنائهم وبناتهم الغد الأفضل، ولو باعوا كل ما يملكون من أجل حفظ كرامة أجيالهم الجديدة وتأمين مستقبل أفضل لهم، يقيهم ذل الحاجة وهدر الكرامة بمد اليد إلى من غادرته مشاعر الإنسانية والرفق بإخوته ومساعدة الأخ الشقيق.
***
لا يمكن القبول بهذا الانقسام «الطبقى» المريع فى الأمة:
من لا يعملون ولا يبذلون أى جهد، ولا يتصبب عرق التعب من جباههم، يحصلون على ما يفوق حاجتهم مئات المرات، بل ألوفها.
بينما من يتعب ويشقى ويتصبب العرق من جبينه غزيرا من أجل أن يؤمن السكن والمدرسة والطعام لأسرته، لا يجد ما يكفيه ويوفر الشبع والكفاية لعائلته.
ولو أن هذه الثروات المتراكمة قد بنيت بعرق الجهد والتعب، لحق لأصحابها أن يتمتعوا بها وأن ينفقوها كما يشاءون.
أما وأنه «القدر» فلا بد من التدخل لتعديل المسار وتحقيق الإنصاف، فقد خلق الله الإنسان من علق، وجعل الناس متساوين كأصابع الكف، وقال سبحانه: «وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى».
والنفط ليس نتيجة سعى أهله، بل هو «هبة» إلهية تنتظر عدالة من جاءتهم بلا تعب لكى يستحقوها..
والله هو الرزاق، وهو المانح العاطى.. ولكن ما كل ما يمنحهم ويعطيهم يتقون الله فى شعوبهم وفى أمتهم، بل إنهم السفهاء.
... «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى»!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved