جمال حمدان.. جمالية الكتابة في الجغرافيا والتاريخ!

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: الجمعة 17 أبريل 2020 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

(1)
أُقلب فى أوراقى القديمة، أبحث عن مادة تائهة، وكعادة كل من ابتلوا بتكدس الكتب وتراكم السنين والأوراق، بغير ترتيب ولا قدرة على ذلك، تسقط «كومة» مائلة فيظهر من ورائها عامود آخر اختفى منذ سنوات، أنسى ما كنت أبحث عنه أصلا، وأُقلب فى ما أمامى، أفاجأ، وكالعادة، أيضا بكتب كنت أبحث عنها منذ فترة، واحتقنت كمدا من عدم العثور عليها، أمسح عنها التراب وأنظر ما تحتها، وأفاجأ أيضا بأوراق كتبتها منذ سنوات بعيدة، أسجل فيها ملاحظات أو أجمع فيها معلومات عن موضوع أو شخصية بعينها.
وإذا بى أجد أمام عينى نسخة قديمة مهترئة من كتاب «اليهود أنثروبولوجيا» للمرحوم جمال حمدان، صدر فى الستينيات من القرن الماضى، ضمن إصدارات سلسلة عظيمة اسمها (المكتبة الثقافية)، وبجواره كتاب آخر له أيضا صدر فى السلسلة ذاتها لونه أصفر باهت بعنوان «استراتيجية الاستعمار والتحرير».
المهم، وبمنطق التداعى، تذكرت المرة الأولى التى سمعت فيها اسم جمال حمدان؛ عاد أبى من عمله ذات ظهيرة يتأبط جريدة (الأهرام) وفى يده الأخرى كتاب صغير الحجم ناولنى إياه وقال لى «هذا كتاب «شخصية مصر» لجمال حمدان.. إنه رجل عظيم وكتابه هذا قصيدة عشق خالصة فى مصر»، كنت واثقا أن أبى لم يقرأ «شخصية مصر» ولا اضطلع على محتواه؛ لكنه بالتأكيد سمع عنه كثيرا وقرأ عنه أكثر فى الصحف والمجلات التى كان يتابعها شغوفا، كان أبى دائما يرمى الكرة فى ملعبى، ويتركنى بعد ذلك لأقرر إن كنت سأكمل أم لا.
قرأت الكتاب ولم يكن صعبا (رغم أنه كتاب يعتمد أساسا على الجغرافيا، وهى من العلوم التى لم يكن بينى وبينها كبير مودة وكان رسم الخرائط بالنسبة لى عقابا إلهيا!)، لم تستوقفنى المعلومات والبيانات الغزيرة، والتوصيف الجغرافى البارع والتحليل المدهش لعبقرية المكان، قدر ما استوقفتنى لغة جمال حمدان، لغة تشع جمالا وإبداعا، تقسيم عباراته لها وقع موسيقى أخاذ، تشبيهاته جذابة وجديدة، لغته فيها شىء مختلف.. ومن وقتها، صرت أسير أسلوب حمدان، وتتبعت كتبه فقط كى أستمتع بجمال أسلوبه، وروعة لغته، قبل الانشغال باستيعاب أفكاره والوقوف عند تحليلاته (كم أتمنى أن يتوفر باحث نابه لدراسة جماليات الكتابة الحمدانية، ويحلل أسلوبه وتصاويره البديعة، بالجملة يُخضع كتابات حمدان لدراسة لغوية أسلوبية تكشف عن فرادتها وخصوصيتها).
(2)
فى 17 إبريل من العام 1993 صحت مصر على الخبر المروع، وفاة جمال حمدان محترقا فى شقته المتواضعة بالدقى، نهاية مأساوية لمفكر عظيم نذر حياته لمشروعه العلمى الضخم.
بعدها بعامين، قرأت فصلا بديعا فى كتاب «شخصيات مصرية» للكاتب والروائى محمد جبريل (شفاه الله وعافاه) عن حمدان، وكان هذا الفصل النواة التى انطلقت منها للقراءة عن حمدان بالتوازى مع قراءة أعماله (ولم أكن قرأت «شخصية مصر» فى طبعته الكاملة عن دار الهلال فى 4 مجلدات)؛ لكنى قرأت «شخصية مصر» فى طبعته الأولى الوجيزة، ثم «استراتيجية الاستعمار والتحرير» (أيضا فى طبعته الموجزة فى المكتبة الثقافية)، و«القاهرة»، و«العالم الإسلامى المعاصر»، وكنت أنقل عنه فقرات كاملة فى كراسة مخصوصة؛ باعتبارها قطعا أدبية فريدة، أحفظها وأستعين بها فى كتابة موضوعات التعبير!
كانت كتب جمال حمدان أعمالا أدبية وجمالية ممتعة بقدر ما هى دراسات علمية صارمة المنهج؛ كما يصفها حقا صديقى الناقد الكبير محمود عبدالشكور، وقد خسرته الجامعة بسبب مشكلة تافهة، لكن الأدب والجغرافيا ربحا علما كبيرا، واختار هو أن يكون راهبا منعزلا يكره الأضواء، ويقضى معظم يومه فى القراءة والكتابة.
وكان المرحوم الكاتب الكبير كامل زهيرى يعتبر جمال حمدان ممن اجتمعت فيه حزمة من المواهب المتنوعة، ولهذا فليس غريبا بعد ذلك أن تجد فى كتاباته الجغرافية العلمية الرصينة تعبيرات موسيقية مثل: ضبط إيقاع النهر؛ يقول «ولست أظن أن عالما أو أديبا أو فنانا اجتمعت له مثل هذه المواهب السمعية والبصرية كما اجتمعت عند هذا العالم الأديب الفنان».
مصر لدى جمال حمدان «هى واسطة كتاب الجغرافيا.. تحولت إلى فاتحة كتاب التاريخ»، وقال أيضا «من كان أبوه التاريخ وأمه الجغرافيا فهو من صنع الله».. قل لى بالله عليك: وهل هناك من كتب فى عشق مصر المحروسة أجمل من هذا علما ومعرفة وأدبا؟!
لا أظن!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved