الاقتصاد في زمن الكورونا وما بعد الكورونا

محمود الخفيف
محمود الخفيف

آخر تحديث: الجمعة 17 أبريل 2020 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

حسب بيانات منظمة الصحة العالمية المنشورة 9 إبريل 2020، أى بعد مائة يوم من أول إخطار من الصين (31 ديسمبر 2019) عن حالات مصابة بفيروس كورونا المستجد، بلغ عدد المصابين على مستوى العالم حوالى 1,5 مليون حالة وبلغ عدد الوفيات، التى تُنسب للفيروس، 85 ألف وفاة، 65% منها فى أربعة دول فقط، كلها دول رأسمالية «متقدمة»، وهى إيطاليا وإسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وفى الصين بلغ عدد الوفيات 3344، وفى مصر كان هناك 103 وفيات من 1560 حالة شُخصت على أنها مصابة بفيروس كورونا المستجد. وحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية فالإنفلونزا الموسمية تحصد ما بين 290 و650 ألف إنسان كل عام على مستوى العالم، وفى سنة 2016 كان هناك 15,2 مليون وفاة من أمراض القلب، وتوفى 3 ملايين شخص من الانسداد الرئوى و1.6 مليون من مرض السكرى.

وفى 23 يناير الماضى اجتمعت لجنة الطوارئ لمنظمة الصحة العالمية لمناقشة إعلان حالة طوارئ صحية عالمية، ثم تطور النقاش لتحديد إذا كانت جائحة (pandemic) أم وباء (Epidemic)، وفى 21 فبراير استقر الأمر على أنها جائحة، ولأول مرة سمع الكثير عن مصطلح «الجائحة». ثم تواترت الأحداث وانتقل الفيروس من بلد لآخر وظهر بكثافة فى إيطاليا وإسبانيا وإيران ثم فرنسا والولايات المتحدة، وأُعلنت حالة الطوارئ القصوى فى بلد بعد الآخر. وبدأ الهلع والفزع وتزايد الحديث عن أسباب الفيروس ومصدره وإن كانت هذه حرب بيولوجية موجهة ضد دول بعينها، أو حرب بيولوجية تجريبية غير معلنة من قوى دولية كبرى، لتقييم جاهزية حكومات ومجتمعات دول العالم وقدرتهم على صد والتعامل مع حرب بيولوجية حقيقة (social experiment)، وأصبح انتشار والسيطرة على هذا الفيروس هو الموضوع الرئيسى إن لم يكن الأوحد لكل وكالات الأنباء ووسائل الإعلام فى العالم أجمع، ثم تكاثر الكلام عما إذا كانت هذه مؤامرة أم صدفة؟ وخرج المحللون والعلماء والمثقفون والأطباء وحتى غير المتخصصين يدلون بآرائهم ونصائحهم وفتاواهم، فريق يحاول أن يشير إلى أنها مؤامرة وفريق آخر يستخف بآراء الفريق الأول ويتهمهم بأنهم من مبدعى «نظرية المؤامرة»، وأنهم يستخفون من خطر حقيقى كاسح.

وبغض النظر عما إذا كانت مؤامرة أو حربا غير معلنة أو هى بالفعل وباء مميت وكاسح نتيجة فيروس لم يستنسخه إنسان، فالأمر الواقع أن ما يحدث الآن أمر غير مسبوق ولم يشهد العالم مثيلا له من قبل، فيما سبق كانت هناك حرب أو مجاعة أو وباء هنا أو هناك، والإنتاج يتوقف وخطوط التنقل تتقطع هنا أو هناك، ولكن الآن فهى حالة ذعر وفزع وهلع جامعة وشاملة فى كل العالم وفى نفس الوقت، فمعظم دول العالم، إن لم يكن كلها، اتخذت إجراءات احترازية قصوى، وكل شعوب العالم تحت حظر تجول بدرجة أو بأخرى، وصلت إلى ما يقرب 23 ساعة فى اليوم فى معظم دول أوروبا، والتنقل بين الدول وداخل كل بلد تقريبا متوقف، والعالم كله فى شلل شبه تام.

***
والآن ماذا عن الاقتصاد العالمى، والأهم بالنسبة لنا الاقتصاد فى العالم النامى (الهش أصلا حتى قبل الكورونا)؟ فالاقتصاد بالتبعية يمر بحالة غير مسبوقة لم يشهدها من قبل حتى فى أثناء الحروب العالمية أو الكساد الاقتصادى العظيم فى ثلاثينيات القرن الماضى، أو الأزمة المالية فى آسيا فى أواخر القرن السابق أو الأزمة المالية العالمية فى 2008. ومن المتوقع أن تكون الأضرار الاقتصادية للإجراءات التى اتُخذت للسيطرة على الفيروس، فادحة وغير مسبوقة، وتتجاوز أضعاف أضعاف الأضرار المباشرة للفيروس، وذلك ليس فقط لأنها أزمة غير مسبوقة ولكن الأهم لأن السياسة الليبرالية الجديدة المتوحشة، التى لا تخضع لأى ضابط أو رابط حكومى، هى التى تسير اقتصاد العالم. وليس من المتوقع أن تتراجع الليبرالية الجديدة عن سيطرتها بل العكس قد تزداد سطوتها للاستفادة من الفراغ الاقتصادى فيزداد الأثرياء ثراء والفقراء فقرا وتزداد تبعية التابعين.

وغالبا سيستمر التأثير السلبى للأضرار الاقتصادية لسنتين أو أكثر بعد السيطرة على الفيروس، وسيكون التأثير أكثر حدة وفتكا فى الدول النامية والفقيرة، التى كانت نسبة الإصابة بالفيروس فيها منخفضة أصلا. ومن المرجح أن تُنتج الآثار الاقتصادية الضارة أعداد من الوفيات فى الدول النامية أضعاف تلك المنسوبة للفيروس بشكل مباشر (ومعظمها فى الدول الغربية الغنية)، وذلك نتيجة تزايد الفقر وسوء التغذية وتناقص القدرة على الحصول على الرعاية الصحية.

فالاقتصاد العالمى والتجارة الدولية شبه متوقفين، وخطوط النقل البرى والجوى والبحرى شبه مشلولة، وقد يكون أكثر من نصف الطاقة الإنتاجية للقطاع الزراعى والصناعى وحتى الخدمى على مستوى العالم معطلة، وحركة تنقل العمالة بين الدول وفى داخل كل دولة تقريبا متوقفة.

***
وبالنسبة لاقتصادات البلدان النامية، وهذا ينطبق على الوضع فى مصر، سيتراجع الإنتاج والناتج المحلى الإجمالى وستزداد البطالة وبالأخص فى القطاع الخاص ويزداد الفقر وبالأخص بين العمالة التى تتقاضى الأجر باليومية. وستتراجع الإيرادات الحكومية مع تزايد الإنفاق وتتراجع الصادرات من السلع والخدمات مما يزيد عجز كل من الميزانية الحكومية وميزان المدفوعات. وستتقزم الإيرادات من العملات الصعبة الآتية من السياحة والنقل والتجارة الدولية (حركة الملاحة وقناة السويس) والتصدير وتحويلات العاملين بالخارج والبترول والغاز (تراجعت أسعارهم حتى قبل الفيروس). وفى نفس الوقت، نظرا للخوف من المخاطرة ومحاولة تفاديها، سيتراجع دخول الدولارات من الاستثمار الأجنبى المباشر وسيزداد خروج الدولارات مع هروب استثمارات الحافظة (الأموال الساخنة) التى كانت تُستثمر فى أذونات الخزانة الدولارية (ديون الحكومة الدولارية)، وسيكون هناك حاجة لتوفير الدولارات لسداد أقساط الدين الخارجى (بلغت ديون مصر بالعملات الصعبة 109 مليارات دولار فى آخر سبتمبر 2019 ــ البنك المركزى المصرى). كل هذا سيضغط بشدة على الجنيه ومعظم عملات العالم الثالث، وبالأخص أن المنافسة للحصول على الديون بالدولار ستزداد حدة، الأمر الذى قد يؤدى فى آخر الأمر إلى تخفيض سعر العملات الوطنية مقابل الدولار وتعويم آخر للجنيه المصرى.

فى هذه الظروف هل هناك حل؟ بالطبع هناك ولكنه يتطلب من حكومات العالم الثالث أن تُظهر إرادة قوية فى مواجهة السياسات الليبرالية الجديدة التى يوصى بها الصندوق والبنك الدوليين، هناك توصيات على المستوى الدولى وأخرى على المستوى الوطنى. على المستوى الدولى يجب على الدول النامية أن تدفع الدول الغربية الغنية والصندوق والبنك على زيادة السيولة المالية الممنوحة للعالم الثالث، وكذلك على تبنى برنامج جاد وفعال لتخفيض أعباء ديون البلدان النامية. وفى تقرير أُصدر فى 30 مارس الماضى، أوصى مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) بتوفير 2,5 تريليون دولار لبلدان العالم النامى: تريليون دولار من صندوق النقد الدولى وذلك بإعادة تخصيص «حقوق السحب الخاصة»؛ وتريليون دولار أخرى لتخفيف أعباء ديون الدول النامية؛ ونصف تريليون دولار كمنح تنموية. وهنا على المفاوض المصرى أن يلعب دورا رياديا فى كل المحافل الدولية مع البلدان النامية لتحقيق التوصيات الثلاث السابق. الأمر الذى يمكن أن يساعد على توفر السيولة الدولارية، وبالتالى رفع الضغوط على الجنيه وتجنب تعويمه.

وعلى المستوى الوطنى، فكما اتضح أن السياحة والبترول والغاز، والنشاطات الرعوية الأخرى، هى أول ما يتأثر بالأزمات العالمية (على الرغم من أهمية هذه النشاطات)، يجب الاعتماد أكثر على الطلب والاستهلاك المحلى بدلا من الطلب الخارجى (التصدير)، وذلك بوضع برامج لدعم الفقراء والطبقة المتوسطة وبرامج لإعادة توزيع الدخول، بما يزيد من قدرة الطبقات المتوسطة وتحت المتوسطة من زيادة الاستهلاك والطلب على المنتجات المحلية، وفى نفس الوقت يجب وضع برامج لدعم الزراعة والصناعة والمنتجات الوطنية. وكذلك يجب اللجوء، بشكل مدروس ومؤقت، إلى بعض معايير التحكم فى حركة رءوس الأموال، للأفراد والشركات، وذلك لوقف نزيف خروج العملات الصعبة خارج البلاد ودعم الجنيه.

هذا المقال يعكس رؤية الكاتب وليس بالضرورة رؤية المنظمة التى يعمل بها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved