فرنسا.. خطوة نحو الجنوح

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 17 أبريل 2022 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

دلت الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية أن المرشحين اللذين سيتنافسان فى الدورة الثانية الحاسمة، حسب الدستور الفرنسى، هما الرئيس الحالى إيمانويل ماكرون ومارين لوبان، رئيسة حزب «التجمع الوطنى» اليمينى المتطرف. تذكر هذه النتيجة بتلك فى عام 2017 بين ذات المرشحين وأيضا بانتخابات 2002 بين الرئيس الراحل جاك شيراك وجان مارى لوبان، والد مارين لوبان الذى خلفته على رئاسة اليمين المتطرف بعد تغيير اسم الحزب من «الجبهة الوطنية» إلى «التجمع الوطنى».
فى 2002، فاز جاك شيراك بأكثر من 82% من الأصوات، نتيجة توحد جميع التيارات السياسية أمام صدمة وصول ممثل يمين متطرف إلى الدورة الثانية. وفى 2017 حصل إيمانويل ماكرون على 66%، فى حين أنه لم يكُن على رأس أحد الأحزاب السياسية التقليدية التى تراجعت شعبيتها. فقط بعد نجاحه فى الرئاسة، أسس الرئيس الحالى حركة سياسية تابعة له. واليوم تدل توقعات مؤسسات الرأى العام أن تكون نتيجة الدورة الثانية بفارق أصواتٍ قليل بين المرشحَين. ما يعنى احتمال حقيقى لوصول مرشحة يمينية متطرفة إلى سدة الحكم فى فرنسا.
فلماذا أخذت الديمقراطية الفرنسية العريقة مثل هذا المنحى؟ أو بالأحرى ما الذى جعل المجتمع الفرنسى ونخبه يقتربان من إمكانية القبول بحكمهم من قبل اليمين المتطرف؟
• • •
من الواضح بداية بالتأكيد أن هناك تأثيرا كبيرا للمال السياسى (أى للنخب الاقتصادية) ولوسائل الإعلام فى هذا التطور. فخلال أكثر من سنة، برز أحد المعلقين الإعلاميين من أصولٍ يهودية جزائرية يُدافع عن الخصوصية الفرنسية بأفكارٍ يمينية متطرفة فى صدارة المشهد السياسي. وخلال أشهرٍ عديدة خصصت جميع وسائل الإعلام الفرنسية افتتاحياتها لتصريحات المعنى (إيريك زمور) الاستفزازية. فحلت «مشهدية» الاستفزاز حول الهوية الفرنسية والمعاداة للمهاجرين مكان أية برامج تعالج قضايا الاقتصاد والعلاقات الدولية والإشكاليات الاجتماعية. ومن المعلوم أن زمور يلقى دعم أكبر أغنياء فرنسا، فينسان بولوريه، الذى يسيطر على نشاطات فرنسية كبيرة فى إفريقيا خاصة فى مجال الموانئ والسكك الحديدية وكما على وسائل إعلام فرنسية نافذة. وأمام المزايدة والاستفزاز على الهوية الوطنية فى الساحة السياسية، برزت مرشحة اليمين المتطرف.. التقليدى على أنها بالمقارنة بـ«زمور».. أكثر عقلانية، وبالنتيجة مؤهلة للحُكم!
هذا كله يطرح السؤال حول العلاقة بين النخب الاقتصادية وكبريات الشركات الفرنسية والعالمية من ناحية، وبين السياسة والسياسيين والدولة فى فرنسا من ناحية أخرى، كما حول التوازن بين المصلحة العامة والمصالح الخاصة الكبرى. الدولة مؤسسة راسخة فى فرنسا منذ الحقبة النابوليونية، وهى تُنتِج كوادرها بشكلٍ مهنى كى يعملوا على خدمة «الصالح العام» مهما كان التوجه السياسى للحزب الحاكم. إلا أن تطورات النيوليبرالية منذ التسعينيات سمحت لهذه الكوادر أن تنتقل بسهولة من إدارة مراكز القرار العام، ومثال ذلك «إدارة الخزينة» فى وزارة المالية، إلى مجالس إدارة الشركات الكبرى. وهذا خلق آلية ضمنية لتضارب المصالح بين ما هو عام، إدارى أو سياسى، وبما هو خاص لمصلحة الشركات الكبرى. وبالتالى لم يسبِق أن هيمنت الشركات الكبرى على ملكية وسائل الإعلام كما هو واقع الأمر اليوم. ليس فقط محطات التلفزة، بل أيضا الصحف العريقة المعروفة عالميا.
كان لذلك كله تداعيات كبيرة على السياسات الاجتماعية. ففى مجال الصحة العامة مثلا، تراجع الاستثمار فى المشافى الحكومية. ولا يجب نسيان مشهد الحوار القاسى بين الرئيس ماكرون وممثل نقابات المستشفيات حول الحالة التراجعية للمستشفيات وللطاقم الصحى. كان ذلك قبل أيام معدودة من انطلاق أزمة جائحة كوفيد 19 التى أبرزت هذا التراجع واضطرار فرنسا إلى إرسال مرضاها للعلاج فى ألمانيا. ولا شك أن إدارة هذه الجائحة تشكل عنصرا فى محاسبة الرئيس المنتهية ولايته فى الانتخابات الحالية. والتخوف من تداعى «دولة الرعاية» أو عدم الثقة فى استمرارها هى عنصر فى انقسام الرأى العام الفرنسى بين الكبار فى السن الذى يصوتون لماكرون أو لوبان وبين الشباب الذين صوتوا بشكلٍ كبير لمرشح حركة «فرنسا التى لا تخضع» «اليسارية»، جان لوك ميلانشون، الذى انشق عن الحزب الاشتراكى عام 2008.
حصل الانقسام.. أفقيا أيضا. فأمام مشاكل ضواحى المدن الكبرى التى تمثلت بالبطالة و«عدم الاندماج» للجيل الثانى والثالث لأبناء العمال المهاجرين الذين استُقدِموا من المغرب العربى اعتبارا من سنوات الستينيات، فيما عُرِف بـ«الثلاثينيات المجيدة» والازدهار الاقتصادى، تخلت الدولة عن دورها الاجتماعى واستعانت فرنسا الرسمية بدولٍ خليجية لتدريب أئمة المساجد أو لتمويل النشاطات الاجتماعية المحلية. وانتهى الأمر بتفشى أفكار متطرفة لدى أبناء من كانوا عماد الحركات العمالية اليسارية. هكذا آلت قصة ثلاث فتيات أتينَ إلى المدرسة بغطاء خفيف على الرأس إلى انقسام المجتمع الفرنسى برمته وبشكلٍ حاد حول معنى «علمانية الدولة» وحول «الإسلام» ومضمونه وتشنجت جميع أطيافه حول قضايا.. الهوية. وما ساهم فى دفع ذوى الأصول المغاربية نحو التشدد على هويتهم الإسلامية. وظهرت فى الساحة السياسية طروحات حول «الانفصالية» (للمسلمين فى الضواحي؟!) أو حول «الاستبدال الكبير» (بمعنى أن ذوى الأصول الأجنبية سيصبحون أكثرية المجتمع) مما بدت آثاره حتى فى الحركات السياسية التقليدية.
بالتالى انهارت الأحزاب السياسية العريقة. وهكذا لم تحصل وريثة حزب شارل ديجول وجاك شيراك حتى على نسبة 5% بالمائة، أى الحد الأدنى المطلوب قانونيا لاسترجاع تمويل الحملة الانتخابية. ولم تحظَ وريثة حزب فرانسوا ميتران «الاشتراكى» سوى على أقل من 2%. ولا يُمكِن نسيان كيف أن هذه الأحزاب السياسية دخلت فى صراعات شخصية داخلها وصلت فى الانتخابات الرئاسية الماضية إلى حد طلب تصويت مجمل الفرنسيين، وليس فقط أنصار الحزب، على من سيكون المرشح للرئاسة! فما معنى «الحياة السياسية» والديموقراطية دون أحزاب منتظمة وتحالفات وصراعات على خلفية برامج واضحة المعالم.
• • •
سنة 2002، رفض جاك شيراك أية مناظرة متلفزة بينه وبين مرشح اليمين المتطرف بين الدورتين الانتخابيتين. هذا فى حين قبل إيمانويل ماكرون مثل تلك المناظرة فى 2017... كما يقبلها اليوم. وبالتأكيد سيكون لهذه المناظرة تأثيرها على النتائج الانتخابية، خاصة مع تضاؤل الفرق بين المرشحَين الاثنين.
فرنسا دولة أوروبية محورية. وقد أخذت تاريخيا دورا أكبر من حجمها لأثرها الثقافى ولأنها كثيرا ما اتخذت مواقفَ ميزتها فى صراعات دولية كبرى، مثل وقوفها الواضح ضد الحرب الإسرائيلية فى 1967 وغزو الولايات المتحدة للعراق. لكن هذه المواقف تم اتخاذها فى ظل انسجام سياسى واجتماعى داخلى وديموقراطية لا شائبة فيها.
ويبقى السؤال الكبير: إلى ماذا، وإلى أين، ستأخذ الانتخابات الرئاسية الفرنسية البلاد؟ هذا فى ظل جنونٍ عالمى سائد وحروبٍ عسكرية واقتصادية أضحت مصيرية لفرنسا.. وأوروبا.. والعالم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved