حدود

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 17 مايو 2015 - 8:20 ص بتوقيت القاهرة

منظر الصحراء يمتد إلى اللانهاية عبر نافذة سيارة الدفع الرباعى، ويقطعه من وقت لآخر مشهد ساحر لعين مياه جوفية يظللها النخيل أو كتلة من نبات المانجروف المتحول إلى صخور صلبة بفعل ملايين السنين أو تلال رملية نحتتها عوامل التعرية.. هذه هى حدود مصر الغربية وصحراؤها... وتأكيدا على ذلك يرتفع صوت الموسيقى، تحديدا صوت المطربة «وردة الليبية»، ليصاحب جولات سائق السفارى الواحاتى، فهى خير رفيق له على الطريق وهو لا يستمع سوى لنجوم طرابلس وبنى غازى. الغناء الطرابلسى الذى ظهر فى العاصمة الليبية منذ أواخر القرن التاسع عشر اختلف عن الغناء التقليدى والشعبى، فقد تأثر بالأدوار والموشحات والأغانى المصرية والشامية، واختلطت فيه الإيقاعات المحلية بالمقامات العربية مثل البياتى والرست والحجاز، ثم ازدهر بفضل قسم الموسيقى بإذاعتى طرابلس وبنى غازى. السائق لا يتوقف كثيرا عند ندرة العنصر النسائى فى مسيرة الفن فى ليبيا، ولا يعرف تاريخ الغناء الطرابلسى، لكنه يطرب له، وغالبا لا يستمع لسواه، كالعديد من أبناء الواحات، فهو الأقرب إلى أذنه ونشأته.

•••

نتعرف على الطبيعة من وراء زجاج السيارة، وعلى الموسيقى السائدة بين سكان المنطقة وهم خليط متنوع من العرب والبربر والرومان، وعلى حجم التداخل فى العادات والتقاليد والثقافة، ما يشكل ذائقة مختلفة من حدود لأخرى. ويكفى أن تراقب الصراعات الدائرة هنا وهناك، عند هذه النقطة الحدودية أو تلك، حتى تفهم أن الحدود لن تعود أبدا إلى ما كانت عليه، ملامحها تتغير.. ولكنها تظل مبهرة فى مكان ما: مغلقة، موصدة، عصية.. وأيضا غامضة، منفتحة، متحركة. هى نقطة فصل ووصل فى آن، منطقة ملغمة بالأسلحة والوحدات الأمنية التى لا تسمح بالمرور، لكنها تسمح بالعبور وحرية الحركة من بلد إلى آخر، إذا لزم الأمر وشاءت الظروف. ونظرا لهذه الطبيعة المبهمة بالنسبة للبعض، فهناك دوما نوع من الحذر الذى يشوب التعامل مع سكان المناطق الحدودية، وكأنهم على هامش الشرعية، لا هم من أهل الريف ولا ينتمون للحضر، وفى كثير من الأحيان تلاحقهم وصمة التهريب والتجارة الممنوعة أو سمعة الفهلوة والقدرة على التحايل والتصرف، ولو من قبيل التنميط لمجرد وجودهم فى منطقة «البين ــ بين».

أتحدث عن الحدود فى المطلق، حتى لو انطلقت فى بداية المقال من مكان ما فى الصحراء الغربية المصرية حيث الألغام المتحركة والساكنة، لكن ما سبق ينسحب قطعا على الحدود بشكل عام، خاصة ونحن نمر بمرحلة فى عالمنا العربى أصبحت الحدود تعنى فيه تجارة بشر وتهريب وجهاد وإرهاب وهجرة غير شرعية هروبا من جحيم الداخل. وكما هى العادة فى أوقات تشديد الرقابة على الحدود بسبب الحروب وخلافه، تتمدد المناطق العازلة والجدران ويتم استخدام الأقليات والجماعات الموجودة على الأطراف كأدوات فى الصراع، ربما دون فهم حقيقى لطبيعة هذه المجتمعات وخصوصية أفرادها. تتصاعد نبرة الخوف، ما يؤدى إلى درجة أعلى من العنف ويكون التأكيد على مسألة الهويات.. يعلو كل ذلك على أصوات الموسيقى، لا تصبح الغلبة هنا لأغنيات «وردة الليبية» بل لقعقعة سلاح القبائل المتناحرة والتى يصعب السيطرة عليها أحيانا. الصدام يحل محل التعاون أو ببساطة أكثر تتغير أشكال التبادل والتفاعل، وهو ما تشهده الحدود التركية السورية، والسورية العراقية، ورفح المصرية والفلسطينية، والصحراء الليبية، وما بين السعودية واليمن، إلخ.

•••

الرؤية قد لا تكون واضحة من خلف زجاج السيارة رباعية الدفع، فقد صممت كى لا تغرز فى الرمال، ونحن بحاجة لأن تطأ أقدامنا الأرض، أن نمتزج بطينها، حتى نفهم التأثيرات الثقافية التى تنفذ عبر الحدود، دون استعلاء أو استقواء أو نمطية. نحتاج إلى رصد تطورات هذه البيئات المغايرة: تركيبة المجتمع، أشكال الموسيقى والرقص، ثقافة الهجين، تعددية الانتماءات والولاءات دون أن يندرج ذلك تحت البند الخيانة والعمالة... نتعامل مع الأشخاص الذين نقابلهم على أنهم جزء من مشهد لا يمكن أن يكونوا بدونه، لأنهم كذلك. علاقتهم بالآخر على الضفة الأخرى، بأبناء العائلة الواحدة هنا وهناك، لم تأخذ حقها بالدراسة فى الشرق الأوسط، بعيدا عن النهج الاستشراقى، وقد حان الوقت لخوض التجربة أكثر من أى وقت مضى، فسكان الحدود لديهم ما يقولونه حول تغير الحدود.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved