موجة سياسية حارة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الثلاثاء 17 مايو 2016 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

متى تنكسر الموجة السياسية الحارة، بأى تكاليف ووفق أى سيناريوهات؟


لا توجد موجات حارة تتمدد بأزماتها وحرائقها إلى ما لا نهاية.


وفق حسابات الطقس المتغيرة، فبعد كل موجة انكسار.


ووفق حقائق التاريخ الثابتة، لا يمكن للدول أن تستقر على عناد مع حقائق عصرها.


فى بلد منهك يبحث بالكاد عما يطمئنه على مستقبله الضيق بالتنوع السياسى مقامرة بالاستقرار كله.


الحق فى التعبير عن الرأى بكل حرية لا يعنى تقويضا للاستقرار ولا مجازفة بالدولة.


ما يقوض الدول أن يفقد مواطنوها حقهم فى التنفس السياسى باسم حمايتها وأن يداس على العدالة باسم القانون.


التضييق تقويض لأى رهان على الإصلاح من الداخل.


دروس التاريخ ماثلة لمن يريد أن يقرأ ما قد يحدث غدا.


هناك فارق بين تسييس الرؤى وتسييس القلق.


الأول، فعل ديمقراطى تنظمه حياة حزبية وتصوغه دولة مؤسسات وفق قواعد دستورية.


والثانى، تعبير عن يأس من أى إصلاح وخشية من المستقبل واحتمالاته.


عند إغلاق المجال العام بمتاريس الأمن الكلمة الأخيرة سوف تأتى من خارج السياق على غير انتظار.


للقوة حدودها، إن تجاوزتها بفداحة فكل شىء محتمل وكل سيناريو وارد.


مصادرة التفاعلات السياسية لا يعنى أنها ألغيت لكنها تؤشر إلى انفجارات تنتظر مواقيتها.


عندما يغيب أى خطاب سياسى يقبل الحوار ويقدر على تكاليفه الخسارة مؤكدة.


وعندما تضيق الدولة بأية قواعد تحكم تصرفاتها فإنها تؤسس للفوضى رغم حديثها عن الاستقرار.


فى غياب القواعد تتفاقم الأزمات، وبعضها مجانية تماما، كما حدث بنقابتى «الأطباء» و«الصحفيين».


لم يكن هناك فى الأزمتين ما يتجاوز الشعور بالإهانة المهنية من تجاوزات الأمن واختراقات القانون.


بشىء من السياسة كان ممكنا تطويق أية تداعيات سلبية بدلا من تركهما فى عراء التفاعلات المكبوتة بقهر الدولة.


لا أزمة «الأطباء» أغلقت صفحتها ولا أزمة «الصحفيين» مرشحة أن تندمل جراحها.


لم تكن هناك معجزة فى التحقيق الصارم مع أمناء الشرطة الذين انتهكوا كرامة طبيبين فى مستشفى «المطرية» دوسا بالأقدام فوق الرءوس.


بدا الأمر عنادا مع غضبة «الأطباء» لأسباب لا علاقة لها بأى قانون، كأنه ليس من حق أية نقابة مهنية أن تغضب لكرامة أعضائها.


ولم تكن هناك معجزة فى التطويق المبكر لأزمة «الصحفيين» بدلا من أن تتمدد إلى مشاحنات، بعض مشاهدها مخجلة بأى معنى سياسى أو أخلاقى كاستدعاء ظاهرة «المواطنين الشرفاء» إلى محيط النقابة العتيدة.


رغم أية أخطاء ارتكبتها «الصحفيين» فى إدارة الأزمة إلا أنها تظل فى الحساب الأخير الضحية لا الجانى.


هناك من اعتقد أن كسر «الصحفيين» يمنع أية احتجاجات على سلالمها، أو أية اعتراضات على اتفاقية ترسيم الحدود مع السعودية، أو أن تحتفظ بأدوارها كـ«قلعة للحريات العامة».


وذلك يعنى انسداد أية قنوات أمل فى الانتساب إلى دولة قانون ومؤسسات تلتزم الشرعية الدستورية التى تقر حقوقا وحريات عامة غير مسبوقة بالقياس على أية وثائق دستورية سابقة.


كما أنه يؤسس لنظرة سلبية أشد خطورة للحاضر فى عالمه يصعب تدارك آثارها الكارثية على فرص تنشيط الاقتصاد وجذب الاستثمارات وعودة السياحة.


إذا كان هناك من يعول على الأمن وحده لكسب قضية الاستقرار فهو واهم كليا.


بذات القدر لا يمكن كسب تلك القضية بالصدامات المفتوحة مع الأجيال الجديدة وخسارة قوتها الضاربة.


فى أزمة التخلى عن «تيران وصنافير» غاب أى حوار مقنع بالوثائق والمستندات والخرائط والتواريخ.


كانت القوة جاهزة لإملاء كلمتها، غير أنه فى مثل تلك الأمور الحساسة القوة لا تحسم أية حقيقة.


بأى معنى تاريخى أو دستورى أو أخلاقى ليست هناك جريمة فى الدفاع عن «مصرية» الجزيرتين ولا يصح أن تكون هناك أية قضية تنظرها المحاكم تؤثم هذا الدفاع.


لم يحدث فى جميع الاتفاقيات المتعلقة بالسيادة التى وقعتها مصر بدءا من معاهدة (١٩٣٦) إلى معاهدة السلام المصرية ــ الإسرائيلية (١٩٧٩) أن اعتبر إبداء الرأى جريمة والاعتراض اثما.


مصادرة الحق فى الخلاف توابعه أخطر من كل توقع والصدام مع المستقبل خسارته مؤكدة فى نهاية المطاف.


لقد جرى إهدار مستقبل عشرات الشباب، وبعضهم فى سن مبكرة، بسبب حماسهم الوطنى لما يعتقدون أنه حق أصيل لبلدهم لا يصح التخلى عنه، خلف قضبان السجون لعامين فى قضية وخمسة أعوام فى قضية أخرى نظرتا على عجل بعد (١٩) يوما من اعتقالهم.


لابد أن هناك من تساءل عن سر «العدالة الناجزة» فى قضية يمكن تأجيلها وغياب الحسم فى قضايا إرهابية أهدرت فيها دماء ضباط وجنود جيش وشرطة؟


بالنسبة للأحكام المشددة بحق متظاهرى (٢٥) أبريل ضد التخلى عن الجزيرتين فسوف يطعن عليها ويستأنف النظر فيها.


وبالنسبة لتداعياتها فإنها ترفع منسوب التوتر العام وتؤسس لقطيعة تاريخية منذرة بنتائجها.


«هل هذا عام الشباب أم عام سجن الشباب؟».


فيما كانت هناك توقعات بإفراجات رئاسية عن الشباب المسيس وفق ما يخوله الدستور من حق العفو أدخلت الأزمة إلى حيث يمتنع الكلام وتتعمق الاحتقانات.


وفيما كانت هناك آمال على تمكين المجلس القومى لحقوق الإنسان من أدواره باعتباره أحد مؤسسات الدولة جرى الاستخفاف به تحت قبة البرلمان دون ردع مناسب.


ما المعنى فى النهاية؟


كارثة حقيقية، فالعالم يشاهد والمجتمع الذى يئن قد يميل لليأس.


من مقتضيات الأمن قبل الديمقراطية تعديل قانون التظاهر وفق ملاحظات المجلس القومى لحقوق الإنسان، فالقانون بصيغته الحالية يخالف الدستور، يصادر الحق ولا ينظمه، ويستخدم للتنكيل لأسباب لا علاقة لها بأى استقرار.


أخطر ما يحدث فى مصر أنه لا توجد طبقة سياسية مفوضة بإدارة الأزمات والملفات كلها فى عهدة الأمن.


نظم الحكم كالجسور تحتاج إلى مرونة حتى تتحمل أية أحمال إضافية فوقها.


الاستعداء بالقوة المفرطة ينزع قطاعا حيويا إثر آخر من دوائر الدعم والمساندة حتى لا يبقى فى النهاية غير المتزلفين لكل سلطة، وهم أول من يقفزون خارج سفينتها لدى أول هبة ريح.


كما أن النزوع إلى الهيمنة على الإعلام بالاستبعاد المنهجى لأى نقد ينزع عنه احترامه ومصداقيته وقدرته على التأثير.


الخطير فى ذلك كله أنه يحرم البلد من قدرته على بناء توافقاته العامة وحفظ سلامته من أى انهيار مفاجئ.


إذا لم تنكسر الموجة السياسية الحارة بالوسائل الديمقراطية فكل شىء على حافة الخطر المحدق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved