سطوة الثقافة العولمية فى الخليج

يوسف الحسن
يوسف الحسن

آخر تحديث: الأربعاء 17 يونيو 2009 - 10:47 م بتوقيت القاهرة

انصرف أكثر الحديث عن العولمة إلى تناول جوانبها الاقتصادية والسياسية والأمنية فى العقد الأخير، ولم يُلتفت إلاّ قليلا إلى أبعادها الثقافية والقيّمية، وإلى تداعياتها على صعيد نظم الثقافة والقيَم والحساسية الإنسانية، خاصة فى تلك المجتمعات التى وقع عليها فعل العولمة الثقافية كالمجتمعات العربية الخليجية. وفى ظل إمكانيات تقنية وإعلامية ومعلوماتية مذهلة، لانتقالها وتدفقها، عبر شبكة المعلومات والبث الفضائى.

ويزيد الأمر خطورة، حينما ندرك أن القوى التى أنجزت هذه الثورة المعلوماتية والإعلامية، هى نفسها التى تحتكر إنتاج القيَم الثقافية المعولمة، ونظم تسويقها وتوزيعها، فى حين إننا كعرب مجرد مستهلك لما تضخه من أنساق قيَم ومعايير ذوق أو جمال أو مسلك، تذهب بعيدا فى تأثيراتها إلى العمق من النسيج الاجتماعى لأجيال جديدة، خاصة فى العقد ونصف العقد الأخير.

وقد تميزت هذه الثقافة العولمية، بكون إيقاع ضغوطها أكثر تسارعا وتأثيراتها أعمق نفاذا، وتسلحت بطاقة تكنولوجية وعلمية وإعلامية واقتصادية هائلة، حتى صار سلطان الصورة المعولمة الزاحفة عبر الفضاء، بديلا عن سلطان المدرسة والأسرة، والمسجد والكنيسة، أو حتى الجريدة والكتاب المقروء.

وقد صاحبت سطوة «الثقافة العولمية» محاولات لتفكيك بنية ما يسمّى بـ«الثوابت الثقافية»، وبروز حالة ضمور وترهّل وسبات، فى مراكز البحث والإبداع والعلم، واقتران مفهوم الثقافة بمفهوم السلعة التجارية.
ومن الخطأ الاعتقاد بأن المعرفة، هى مجرد الحصول على معلومات، أو استيراد نتائج العلم، أو الركون
فى تكوين الكوادر العلمية إلى مجرد التعاون مع الجامعات ومراكز البحث فى البلدان المتقدمة معرفيا.

وهى ظاهرة انتشرت مؤخرا فى منطقة الخليج.

إن المعرفة الحقيقية، كمعيار للرقى الإنسانى فى الطور الراهن لتقدّم البشرية، هى الاستثمار فى إنتاج المعرفة وطنيا، وخلق التقاليد العلمية والنقدية، المؤدّية لاكتساب المعرفة وإنتاجها. فالمعرفة لا تنمو فى فراغ، بل فى سياق ثقافى وتاريخى ومجتمعى.

من ناحية أخرى، تبدو الصعوبة غير قليلة، فى معاينة التغيّرات على المستوى الثقافى فهى، أولا، لا تسير فى خط متصاعد، أو بصورة متواصلة. وهى، ثانيا، تسير وتؤثر بشكل بطىء، على عكس التحوّلات التى تطرأ على الجوانب المادية والاقتصادية والسياسية فى الحياة البشرية. وهى، ثالثا، تتعامل مع مفاهيم ثقافية، اتسعت وتنوّعت إلى حقول جديدة، وانتشرت صناعتها، وبرزت صناعة الإعلام فيها، وفى ترويجها بشكل غير مسبوق، حتى صارت سلعة خاضعة لمنطق السوق، وتجاوزت حدود الدول والخصوصيات. وهى، رابعا، تلامس، أو تؤثر فى مرجعيات متعدّدة للثقافة الوطنية، بدءا من مرجعياتها العُرفية، ذات الصلة بتقاليد المجتمع وأعرافه وعاداته، والتى تخضع للتطوير والنقد معا، ومرجعياتها الأخلاقية والتربوية، التى تشمل المثل العليا والفضائل الأساسية، وانتهاء بالمرجعيات المعرفية القائمة على البحث والمعارف الإنسانية، والمرجعيات الجمالية، التى تتطوّر عبر الزمان والمكان.

إن الأكثر تأثيرا فى فعل العولمة، هو «جدول أعمالها» فى المجال الثقافى والهوية الثقافية، وهو جدول أعمال لا يقل أهمية فى منظور قوى العولمة عن جدول أعمالها فى المجالين الاقتصادى والسياسى.
ولا يعنى أن «القيم المعولمة» السائدة، هى الأعلى قيمة فى الثقافة، أو إنها الأسمى حضارة وإنسانية وجمالا. إنما نجحت فى تعميم قيمها خارج حدودها بفعل قوة الإعلام وسطوته، وقوة الاقتصاد والنفوذ على المستويين الاقتصادى والسياسى. وأبرز مثال على ذلك، إن القيم الثقافية الأمريكية المتعوملة اليوم، لا تعلو قيمتها على غيرها من القيَم الثقافية الغربية الأخرى، كالفرنسية والألمانية والإيطالية واليابانية مثلا، لكنها نجحت بدعايتها الإعلامية الفذّة فى نشر قيَم هوليوود السينمائية وتكريس الغناء الهابط، والنمط الغذائى الفقير صحيا، واللباس الهابط ذوقا وجمالا...إلخ.

إشكاليات وظواهر سلبية

مع مرور نحو عقد أو أكثر على تفاعلات الثقافة العولمية فى منطقة الخليج العربى، يمكن ملاحظة عدد من الظواهر، التى نخشى أن تتوطن فى النسيج الثقافى والاجتماعى، فى ضوء امتداد زحف آليات الثقافة العولمية، ومحاولاتها إعادة صياغة التواصل الإنسانى، وإلغاءها المكان، واختصارها للزمان، وعرضها، بل فرضها بالإغراء «المسلح» بتقنيات الاتصال والتوزيع الحديثة، منظومات ثقافية ــ قيمية بديلة.
وقد اخترت عددا من هذه الظواهر:

(1) ثقافة وول ستريت

وهى ثقافة المال، التى صارت حلم الشباب، بعد أن كان حلم الأكفأ منهم، أن يتخرّج طبيبا أو مهندسا أو عالما. وقد صار الحلم الآن، هو العمل فى أسواق المال والسمسرة. وهى ثقافة خطرة أفسدت حتى النظام المالى العالمى للرأسمالية، وأدّت إلى جعل رجال المال والأعمال سادة المجتمع. ووضعت المكاسب الفردية والخلاص الفردى، على رأس الأولويات، ولها الأسبقية على المصلحة العامة.

وأفرزت هذه الثقافة، قيما ومنظومات حكم مغايرة، اتسعت خلال سطوتها الفقر، وارتفعت نسبة البطالة، وشاعت معها ثقافة البذخ الاستهلاكى، وعقلية المقامرة، والإنفاق غير المحدود، وغير المقبول، أخلاقيا واقتصاديا وتنمويا وسياسيا.

لقد أدّت ثقافة «الوول ستريت»، والمضاربات المجنونة، إلى تأليه السوق المنفلتة بلا ضوابط ولا شفافية، وأدّى ذلك إلى إضعاف الدولة ورقابتها ودورها الخدمى والتنظيمى والراعى الاجتماعى.

(2) سيادة ثقافة الصورة

لا تعرض العولمة ثقافتها، بل تفرضها من خلال الإغراء المدعوم بأحدث تقنيات الاتصال، واللجوء إلى الصورة بدلا من الثقافة المكتوبة.

وقد أسهم أيضا فى سيادة الثقافة المرئية، يُسرها وسهولة التعاطى معها، خلافا للنمط المكتوب الذى يتطلّب كفاءات لغوية ومعرفية. وقد شجّعت هذه الثقافة الفرجة والاستعراض والمتعة، خلافا للثقافة المكتوبة التى تدعو للتأمل والتفكير.

وقد أثرت سطوة الصورة على ثقافة النقد، خاصة النقد الأدبى والثقافى والسياسى، وهو النقد الذى يتطلّب جهدا علميا، ووعيا ووقتا وحفرا فى الأعماق، لا يتوافر لمن يلهث خلف المقابلات والندوات الفضائية.

(3) ثقافة الترفيه

شجعت وروّجت الثقافة العولمية، الذهنية الترفيهية، ووسعت آفاق المبادرة الشخصية للتسلية والترفيه، كما وفّرت وسائط اتصال حديثة للتسلية الفردية فى مجالات الغناء والموسيقى والأفلام.

وفى المحصلة تراجعت «ثقافة الرأى والنقد» وضعفت الثقافة المدنية التى تؤسس لقيم العمل التطوعى، والعمل الجماعى، والذهنية الإنتاجية، وتقدمت ثقافة المتعة والغرائز، وانكمشت «عادة المطالعة».

وأصبحت المعرفة عامة، وجرعة الثقافة (رغم سرعة الحصول عليها) ــ ذات نوعية هابطة، وتراجع الاهتمام بالإبداع الثقافى، خاصة الإبداع التجريبى والطليعى والجاد، فى مقابل الإقبال الشره على التسلية والاطلاع العابر، بعيدا عن قيم الجمال والإبداع العالى.

(4) أُفول النخبة

تتوجه الثقافة العولمية مباشرة إلى القاعدة العريضة من الناس، ولا تتوقف للجدل مع النخبة، بمعنى أنها «شعبوية»، وغيّرت النظرة إلى المرجع الذى يُحتكم إليه، أو يوجه سلوك الأشخاص وطموحاتهم. ففى العقود السابقة، كان المثقف أو السياسى أو الأديب أو الأكاديمى، هو النموذج المؤثر فى المجتمع، أما فى أزمنة العولمة، فقد أصبح النموذج (القدوة)، هو نجم الرقص والغناء والموضة ولاعب الكرة والسمسار.

ولا يكتمل المشهد، إلاّ بملمح آخر كونى، هو نوع من «الضجيج الثقافى»، ويشكل صعوبة أمام المواطن لالتقاط الأفكار «والثقافات» النازلة على رأسه كالمطر، حيث يصعب عليه حتى التقاط أنفاسه. وتنشأ فى ظلال هذا الضجيج، علاقة متفككة بين مادة هذا الضجيج والمجتمع، يصعب خلالها صياغة أسئلة وأجوبة جوهرية عن هذه العلاقة.

(5) ظاهرة ثقافة البنى العصبوية

يُلحظ الآن فى مشهد خريطة الاجتماع الأهلى العربى، بروز أو استيقاظ تكوينات اجتماعية/ثقافية/سياسية عصبوية (طائفية/مذهبية/عرقية)، تبدو منحدرة من عهد ما قبل المجتمعات الحديثة.

إن هذه البُنى العصبوية، تبدو اليوم مغلقة على بعضها، أو منغلقة على غيرها، وتحمل معها معضلات حادة تطال وحدة المجتمعات واستقرارها السياسى، خاصة حينما تتحول تلك البُنى، إلى كيانات ذات طبيعة مؤسسية فى مقابل غيرها، على صعيد وعيها الثقافى بذاتها.

(6) علم بلا ثقافة

إذا ما وافقنا على أن هناك توجها ــ بصورة ما ــ فى الوطن العربى نحو الأخذ بالعلم فى تعليمنا وكلياتنا ومعاهدنا العلمية، فإننا سنفاجأ بانفصال العلم عن الثقافة بمستوياتها المادية والمعنوية. ونعنى بهذا الانفصال إن التعليم التقنى السائد، هو تقديم العلم كقوانين فقط، حيث يرسخ فى الذهن الميل نحو النظرة الجدية المغلقة والشعور بامتلاك الحقيقة، ومن ثم الاستعداد للتعصب للرأى، ورفض الرأى الآخر.

هل هذا يفسر لنا، لماذا أصبحت الكليات العلمية والتقنية مرتعا للتطرف والغلو؟ حيث فى هذه الكليات، لا انفتاح على التراث والثقافة الوطنية، ولا على الفكر النظرى المعاصر، ولا مكان للأسئلة النقدية أو الحس بالتاريخ والأدب والجغرافيا...إلخ

إن العالم اليوم لا يواجه مشكلات تقنية، وإنما التحدى الأكبر، يتمثل فى فقدان الإحساس بالمسئولية، حيث يبتعد الضمير الإنسانى عن العقل.

(7) الخطاب الثقافى العولمى

أدى التطور الهائل فى وسائل الإعلام المرئى والمقروء، نظما وإدارة وإمكانيات، إلى أن يصبح خطابها الثقافى المعولم، هو المؤسسة التربوية والتعليمية التى حلت محل الأسرة والمدرسة، فهى التى تلقِّن الأجيال، منظومات مسلكية وقيمية مغايرة، بغض النظر عن ماهية المعلومات والأنساق القيمية التى تتدفق.

لقد تراجع دور المؤسسات (أسرة ــ مدرسة ــ مسجد ــ تجمعات أهلية ــ إعلام محلى...إلخ)، التى كانت تصوغ قيم الأفراد، وتعيد إنتاج وعيهم وسلوكهم، فى إطار وعى وسلوك الجماعة الوطنية والدينية والاجتماعية التى ينتسبون إليها، وتشكل فى نهاية الأمر، شخصيتهم الجماعية، وتحميها من المؤثرات والمفاعيل الخارجية.

******
إن عدد الساعات التى ينفقها الجيل الجديد يوميا للمشاهدة التليفزيونية أو الإنترنت، هى أضعاف الوقت الذى ينفقه فى تلقى التربية والتثقيف من المصادر والمؤسسات التقليدية.

هل الجديد المعولم، يبنى شخصية متزنة ومتوازنة للمشاهد، بأبعادها الروحية والعقلية والخلقية والحس بالجمال وخدمة المجتمع، ويبلور انتماءه وهويته الوطنية، ويوفر له القدوة الحسنة والنموذج الأفضل؟
أسئلة واضحة، وأجوبتها لم تعد محيّرة. 
 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved