هل تحتاج مصر إلى اقتصاديين؟

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الجمعة 17 يونيو 2011 - 8:26 ص بتوقيت القاهرة

 قد يبدو هذا السؤال مدهشا، ولكن أرجو ألا يعتبره القارئ كذلك بعد الانتهاء من القراءة.

ولنبدأ قصة الاقتصاد المصرى من بداية الاحتلال الإنجليزى فى 1882. فطوال فترة الاحتلال التى لم تنته فى الواقع إلا فى 1956، كانت السياسة الاقتصادية المطبقة فى مصر توضع فى لندن وليس فى القاهرة. قد نستثنى السنوات الأربع الأولى التالية لثورة 1952 (52 ــ 1956)، على اعتبار أن النفوذ البريطانى قد ضعف بشدة بقيام الثورة، ولكن تبقى الحقيقة الصارخة وهى أنه طوال سبعين عاما استمرت مصر محرومة من ممارسة إرادتها الحرة فى رسم سياستها الاقتصادية.

كانت أهداف بريطانيا الاقتصادية بسيطة للغاية: فبعد اتخاذ الإجراءات اللازمة، فى العقود الأولى من الاحتلال، لتمكين مصر من سداد ديونها التى كانت قد اقترضتها من بريطانيا فى عهود سابقة، كان الهدفان الأساسيان لبريطانيا هما الحصول على القطن المصرى الرخيص والاحتفاظ بمصر سوقا مفتوحة لصادراتها (على الأخص المنسوجات)، وكان هذا يتطلب بالضرورة تعطيل التصنيع فى مصر، وضمان توافر العمالة الرخيصة، ومنع مصر من اتباع سياسة حمائية.

لم يكن تطبيق هذه السياسة يحتاج إلى اقتصاديين مصريين، (إذ يقوم الاقتصاديون والسياسيون الإنجليز بالواجب)، وإنما كانت هناك حاجة فقط إلى موظفين مصريين يستطيعون فهم التوجيهات الاقتصادية الآتية من لندن، ويعرفون كيف يطبقونها.

لا عجب إذن أن ظل عدد الاقتصاديين المصريين طوال النصف الأول من القرن العشرين محدودا للغاية، وقد اشتغلوا أساسا بالتدريس، فإذا عملوا فى الحكومة أو البنوك كانت مهمتهم، لا رسم الخطط أو وضع استراتيجيات للتنمية، بل كانت كما وصفتها حالا: تنفيذ السياسات والتوجيهات الواردة من لندن.

بانتهاء الاحتلال الإنجليزى فى 1956 مرت مصر بفترة نادرة المثال من حيث استقلال الإرادة فى رسم السياسة الاقتصادية (ربما لا نجد سابقة لها إلا فى عهد محمد على، أى قبل ذلك بأكثر من مائة عام). ومن ثم سرعان ما وضعت مصر برنامجا للتصنيع فى 1958، ثم خطة خمسية رائعة للتنمية (60 ــ 1965)، وحققت مصر بفضل هذا البرنامج وهذه الخطة نتائج باهرة مازلنا نجنى ثمارها حتى الآن (بعكس كل ما يقال للتقليل من شأنها) ليس هذا فحسب، بل اقترنت التنمية الناجحة بتحقيق درجة عالية من إعادة توزيع الدخل وتقليل الفوارق بين الطبقات.

نعم، كانت مصر فى تلك الفترة القصيرة (56 ــ 1967) فى حاجة لا شك فيها لاقتصاديين، وليس لمجرد موظفين يفهمون لغة الاقتصاد، بل لاقتصاديين ذوى رؤية وقادرين ومتحمسين لوضع استراتيجية للنهوض بالاقتصاد. لا عجب إذن أن انشئت فى هذه الفترة أول كلية للاقتصاد فى مصر (1961)، وأول وزارة للتخطيط ومعهد للتخطيط، ساهمت فيما تحقق من إنجازات اقتصادية فى هذه الفترة.

ثم حدثت الهزيمة المشئومة فى 1967، وبدا وكأن الاقتصاديين المصريين لم تعد ثمة حاجة إليهم، صحيح أن كلاما كثيرا قيل بعد الهزيمة عن (اقتصاديات الحرب)، وضرورة تعبئة الموارد من أجل معركة جديدة، ولكن الحقيقة أن هذا كان أقرب إلى محاولة ذرّ الرماد فى الأعين، وإيهام الناس بأن جهدا حقيقيا يبذل من أجل استرداد سيناء، بينما كانت الحقيقة أن الحكومة كانت تسعى فى السنوات التالية للهزيمة إلى إرضاء الناس بتمكينهم من استهلاك أكبر، وإلى تدليل الطبقة المتوسطة فى محاولة يائسة لتخفيف الغضب الناشئ عن الهزيمة.

كانت السنوات الثمانى التى انقضت بين هزيمة 1967 ومنتصف السبعينيات، سنوات ركود اقتصادى رهيب، اعتمدت مصر خلالها على المعونات الآتية من دول عربية، وضحّت خلالها بأى جهد حقيقى للتنمية، إذ كان أقصى ما يمكن الطموح إليه فى تلك الفترة هو تقليل الخسائر إلى أقل قدر ممكن، والمحافظة على الأمن ومنع انفجار شعبى.

●●●

عندما دشّن أنور السادات سياسة الانفتاح الاقتصادى فى منتصف السبعينيات، كان فى الواقع يعود بمصر إلى شىء شبيه جدا بما كانت عليه الحال أثناء الاحتلال الإنجليزى، من حيث فقدان الإرادة الوطنية فى رسم السياسة الاقتصادية، استعان السادات لفترة قصيرة ببعض الاقتصاديين من ذوى الرؤية الاقتصادية الشاملة والوازع الوطنى القوى، تحت رئاسة رجال من نوع عزيز صدقى وعبدالعزيز حجازى، ولكنه سرعان ما استغنى عنهم بمجرد أن استتب الأمر للنفوذ الأمريكى، ولم تعد هناك حاجة للاستمرار فى التمويه على الناس.

تولى أمر الاقتصاد المصرى إذن، ابتداء من منتصف السبعينيات عدد ممن يمكن وصفه بـ«الموظفين الاقتصاديين»، الذين تنحصر مهمتهم فى تفسير التوجيهات القادمة من الخارج وتنفيذها (أى من الإدارة الأمريكية والمؤسستين الماليتين الدوليتين).

كانت النتيجة أن الاقتصاد المصرى عند مقتل السادات فى 1981 كان فى حال يرثى لها: حجم مذهل من المديونية الخارجية، وتضخم جامح، وانخفاض كبير فى نصيب الصناعة من الناتج القومى، ومعدل بطىء للغاية لنمو الزراعة، مع اعتماد كبير على استيراد المواد الغذائية، ولم ينقذ مصر من معدل مرتفع للبطالة إلا انفتاح باب الهجرة إلى الخليج.

عاد الأمل لفترة قصيرة للغاية فى أن يقوم الاقتصاد المصرى من عثرته بعقد المؤتمر الاقتصادى الشهير فى فبراير 1982 فى بداية عهد مبارك، إذ ضمّ هذا المؤتمر صفوة الاقتصاديين المصريين من ذوى الرؤية الثاقبة والوازع الوطنى الذى لا شك فيه، فقدموا اقتراحات مهمة للإصلاح الاقتصادى وظننا وقتها أن مصر على وشك الدخول فى مرحلة جديدة يتولى أمر الاقتصاد فيها اقتصاديون حقيقيون، ولكننا فوجئنا برئيس الوزراء (فؤاد محيى الدين) ينهى المؤتمر بتوجيه الشكر للاقتصاديين على مسعاهم، ويصرفهم إلى بيوتهم على وعد منه بتشكيل لجان تتولى تنفيذ توصياتهم، وهو ما لم يحدث قط. واستمر الحال كما بدأ فى منتصف عهد السادات: استقبال بعثة بعد أخرى من صندوق النقد ومن البنك الدولى، وتنفيذ توجيهاتهما وتوجيهات الإدارة الأمريكية، وكأننا لم نفعل فى عصر الاستقلال الرائع إلا أن نستبدل بالقرارات الصادرة من لندن، قرارات صادرة من واشنطن.

لم تكن المسألة مسألة خلاف بين يمين ويسار، بل كانت أبسط من ذلك بكثير. وقد قالها المفكر الأمريكى الشهير ناعوم تشومسكى بوضوح تام. لم تكن واشنطن تحارب الشيوعيين فى العالم الثالث، بل تحارب الوطنيين. وقد قدم تشومسكى أدلة عديدة على ذلك من أمريكا اللاتينية وآسيا، ولكن الأمر كان كذلك فى مصر أيضا. فالمستبعدون من تولى أمور الاقتصاد فى مصر، منذ منتصف السبعينيات لم يكونوا فقط اليساريين الوطنيين بل أيضا اليمينيين الوطنيين.

وقد كنت دائما أعتقد (ولا أزال) أن من الممكن لمصر أن تحقق نهضة اقتصادية حقيقية تحت قيادة أى من هذين النوعين من الاقتصاديين، ماداموا يتحلون بالنزاهة والوطنية، ويحاربون الفساد ويؤمنون بسيادة القانون.

هكذا كان رجال من نوع سعيد النجار، الذى استبعده النظام الناصرى بسبب إيمانه بنظام حرية السوق ومعاداته للتدخل الشديد من جانب الدولة، واستبعده نظام السادات بسبب نزاهته ووطنيته ومناداته بسيادة القانون. وهكذا أيضا كان إبراهيم شحاتة، ذلك القانونى والاقتصادى النابه، الذى كان كلما ذكر اسمه، أو اسم سعيد النجار، أمام كبار المسئولين فى مصر، هزوا رءوسهم اعترافا بفضل كل منهما ثم أشاحوا بوجوههم عن أى احتمال للاستعانة بأى منهما لنفس الأسباب. ما أكثر ما كتبه سعيد النجار وإبراهيم شحاتة (وكلاهما يمكن أن يعتبرا منتميين فى آرائهما الاقتصادية إلى اليمين)، من كتب ومقالات رائعة عن المطلوب عمله لتحقيق نهضة اقتصادية فى مصر، ولكن ما أقل الاهتمام الذى أولاه المسئولون لهذه الكتابات.

أما أسماء وكتابات الاقتصاديين الوطنيين المنتمية إلى اليسار فحدث عنها ولا حرج، إذ ما كان أكثرهم فى وزارة التخطيط ومعهد التخطيط وكلية الاقتصاد، بل أيضا فى الهيئات الدولية بالخارج، ولكن لم يستدعهم أحد من المسئولين للاسترشاد برأيهم أو التحاور معهم.

ظلوا قابعين فى أماكنهم فى داخل مصر، يتلقون رواتبهم دون أن يفيد منهم أحد إلا من كان لهم من طلاب، فقد اعتبرت الحكومة وزارة التخطيط ومعهد التخطيط عبئا عليها ابتداء من منتصف السبعينيات، ولم يصدر قرار بإلغائهما واغلاقهما لمجرد تجنب الفضيحة. نعم، كان هناك من الاقتصاديين المصريين الوطنيين من احتلوا مناصب رفيعة فى المؤسسات الدولية، فاستفاد العالم كله من مواهبهم وكفاءتهم إلا مصر.

إذ الطريف أن الهيئات المالية الدولية لا تمانع فى توظيف هؤلاء فى مناصب مهمة فى داخلها، ماداموا لن يقوموا بإصلاح حقيقى للسياسة الاقتصادية فى بلادهم ذلك أن البيروقراطية المطبقة داخل هذه المؤسسات تسمح لها بأن تستخلص من هؤلاد الاقتصاديين العظام، كل ما فى طاقتهم تقديمه، ثم توجهه، من خلال آلتها الجبارة، لخدمة مصالح رأس المال الدولى والقوى المسيطرة فى العالم.

●●●

استمر الأمر على هذا المنوال طوال عصر مبارك، فتولى أمر الاقتصاد المصرى، وزير بعد آخر، بل رئيس وزراء بعد آخر، من ذلك النوع الذى وصفته من قبل بأنه أقرب إلى الموظف الذى يفهم معنى المصطلحات الاقتصادية، والقادر على تنفيذ التوجيهات الآتية من واشنطن، منه إلى الاقتصادى صاحب الرؤية، والقادر على الاشتراك فى وضع استراتيجية وطنية للنهوض بالاقتصاد. الأسماء كثيرة ومعروفة، وكم كان من السهل على من يقوم بتعيين الوزراء ورؤساء الوزارات أن يستبدل واحدا منهم بالآخر، مهما كان هذا أو ذاك مجهولا أو مفتقدا لتقدير زملائه من الاقتصاديين.

●●●

استمر هذا حتى قامت ثورة 25 يناير 2011، فاستبشرنا خيرا، وقلنا إن الفرج جاء، وتطلعنا إلى اليوم الذى يتولى فيه شئون الاقتصاد، اقتصاديون من النوع الآخر الذى طال استبعاده. وأعود فأكرر أنه لا يهم كثيرا فى الحقيقة ما إذا كانوا من اليمين أو اليسار، فالنهضة ممكنة على يد أى منهما مادامت قد توافرت النزاهة والوطنية. ومتى توافرت النزاهة والوطنية فإن الخلافات يسهل تسويتها، وسرعان ما نجد المواقف المتباينة تتقارب وتلتقى عند النقطة التى تحقق مصلحة الوطن. فالذى يمنع التقارب ويديم الخلاف ليس تضارب الآراء بل تضارب المصالح الشخصية.

فماذا حدث؟
أمور الاقتصاد تعهد من جديد لرجال من نفس النوع القديم، خدموا كمستشارين لوزراء أو لرؤساء وزارات فى العهد الذى تم إسقاطه. وكأن البلد قد خلا إلا من هذا النوع من الموظفين. لا بأس من أن يتولى اقتصادى مشهور بالوطنية والنزاهة وزارة صغيرة بشرط أن يظل بلا حول ولا قوة، فيزيّن به مجلس الوزراء وتتحلى بصورته صفحات الجرائد، بشرط أن يظل بعيدا عن اتخاذ القرارات الأساسية، أو بالأحرى بعيدا عن استطلاع القرارات الأساسية الواردة من الخارج وتنفيذها.

الحوارات مستمرة بالطبع، والاجتماعات تعقد على قدم وساق ثم تنفض، وأصحاب الآراء المختلفة يدعون للإدلاء بآرائهم، ولكن الجميع يفاجأون بسفر أبرز الموظفين الاقتصاديين إلى واشنطن لطلب المساعدات، ولا نعرف بالضبط ما إذا كان قرار السفر نفسه قد اتخذ فى القاهرة أو فى واشنطن. ويعود من زملائه ظافرين بمساعدة اقتصادية قيمة، لابد أنها اقترنت بنصائح وتوجيهات غالية أيضا.

والخلاصة أنه، إذا كانت مصر تحظى بهذا النوع من الموظفين الأكفاء وبالغى النشاط، فما حاجتها إلى اقتصاديين؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved