مئة عام من الخيبة.. الأنظمة العسكرية تغتال العروبة بالطائفية

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 17 يونيو 2015 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة

قبل مئة عام، تقريبا، ومع تهاوى السلطنة العثمانية فى غمار الحرب العالمية الأولى، وتقدم الاحتلال الغربى، ممثلا ببريطانيا وفرنسا فى المشرق العربى، وجدت فكرة «العروبة» المناخ المواتى لكى تتبلور سياسيا فتتحول تدريجيا إلى عقيدة جامعة لأشتات العرب، الذين كانوا يتوزعون على «ولايات» تباع بالمزاد العلنى لمن يدفع أكثر من الباشوات الذين يرضى عنهم السلطان أو الباب العالى.

كان الغرب الذى اخترق دوائر الحكم فى السلطنة قد تدخل وأكثر من مرة، باسم الدين أحيانا، وباسم الأقليات غالبا، لانتزاع الامتيازات وحق القرار فى أكثر من «ولاية»، أو لإعادة النظر فى تقسيم الولايات بما يناسب مشاريعه المستقبلية.. ولعل «متصرفية جبل لبنان» هى النموذج الأوضح لمثل هذا التدخل: فقد أفاد الغرب من فتنة مدبرة فى الجبل بين المسيحيين والدروز لكى يفرض على السلطان إقامة «متصرفية جبل لبنان» بذريعة حماية المسيحيين فيه، بشرط أن يكون «المتصرف» مسيحيا من رعايا السلطان، ولذا توالى على رأس المتصرفية ثمانية متصرفين كانوا بأكثريتهم الساحقة من الأرمن. كان ذلك امتيازا لجبل لبنان وبمبررات طائفية، أما بقية أنحاء لبنان (الجنوب والشرق والشمال والعاصمة الحالية بيروت) فقد ظلت فى الولايات التابعة للسلطان.. ريثما يتم اقتسام المشرق العربى بين بريطانيا وفرنسا مع نهاية الحرب.

ولعل هذا التقسيم الذى تم برعاية الغرب قد سرع فى بلورة فكرة العروبة كإطار جامع لشعوب المشرق خاصة، لا سيما وأن الدعاة الأوائل كانوا بأكثريتهم من بين المسيحيين الذين حظوا بفرص تعلم حديث نتيجة البعثات التعليمية الفرنسية والبريطانية والإيطالية ومن ثم الأمريكية، التى كان بعضها قد باشر إنشاء المدارس بدءا من القرن السادس عشر، مع الأخذ فى الاعتبار أن الرهبانيات قد حظيت بفرصة أن تتولى تعليم الناشئة فى وقت مبكر. ولعل هذا بين أسباب أخرى ما جعل طلائع القائلين بالعروبة التى سرعان ما أخذت تتبلور عبر إطار «قومى» من المسيحيين عموما. ولعل النموذج الغربى للقومية هو الذى ساد فى «بلاد الشام».

***
نتيجة للاضطهاد العثمانى وتخوف الفرنسيين من التبلور السياسى للأفكار القومية بما يزعج مخططهم للهيمنة تحت عنوان «حماية المسيحيين» فى المشرق، هاجر عدد من كبار المفكرين والدعاة فى اتجاه القاهرة، حيث «احتضن» البريطانيون «الدعوة» الجديدة بأمل استخدامها ضد العثمانيين فى كل مكان.

وهكذا شهدت القاهرة إطلاق صحف ومجلات عربية عدة بينها «المقتطف» و«الأهرام» و«دار الهلال» إضافة إلى بعض المجلات العلمية، فضلا عن تعزيز دور النشر الذى زاد اهتمامها بإعادة تقديم جوانب من التراث الفكرى والثقافى العربى الذى سيبلغ أوجه مع بدايات القرن العشرين على أيدى مجاميع من أوائل المثقفين الذين تابعوا دراساتهم العليا فى فرنسا، وعادوا منها ليضيفوا إلى جهد رواد التنوير الأوائل البحوث الفكرية حول الهوية الوطنية، وإعادة اكتشاف ما يجمع الشعوب العربية فى التراث كما فى التطلع إلى مستقبل الحرية والاستقلال والطموح إلى الوحدة... إلخ...

فى وقت مبكر، برز تياران متكاملان فكريا متناقضان سياسيا: الدعوة إلى إسلام صحيح، أو بالأحرى إعادة الاعتبار إلى «دولة الإسلام»، وبالمقابل اعتبار العروبة هى الإطار الفكرى السياسى الجامع للعرب بأكثريتهم من المسلمين والأقليات الدينية التى لا ينتقص اختلافها فى الدين من «قوميتها»، بل إن إسهامها الفكرى فى بلورة «العروبة» كإطار سياسى جامع للأمة، بمختلف أقطارها وبمعزل عن الانتماء الدينى لمجاميعها، شكل عنصرا حاسما فى صياغة «العروبة» التى ستغدو حركة بل حركات سياسية متعددة تحت عنوان جامع «القومية العربية».

هذا فى التاريخ، أما فى واقع الحال فإن التجارب الفاشلة فى معظمها لتجسيد القومية أو العروبة فى نظام سياسى، قد أصابت فكرة العروبة فى مقتل، وسهُل على خصومها الهجوم عليها بالشعار الدينى، أو بالمشاريع الكيانية التى تتذرع بحقوق الأقليات الدينية أو المذهبية أو العرقية فى أن تكون لها كيانات سياسية خاصة، ولو تحت الحماية الغربية (الأمريكية بالمطلق).

***
ومع تهالك نظام حزب البعث فى العراق، عبر مغامرات صدام حسين العسكرية فى الخارج (الحرب الطويلة لسبع سنوات ضد إيران وثورتها التى أسقطت أعدى أعداء العرب، الشاه ـ وبعدها غزو الكويت) كان طبيعيا أن يسقط أمام الاحتلال العسكرى الأمريكى، المعزز بقوات عربية ـ حتى تخفف عنه تهمة «الاستعمار» مجددا.

انكشف خراب العراق كدولة وتبدت وحدة شعبه مضروبة بالطائفية والعنصرية (سنة وشيعة، عربا وكردا وأقليات أخرى)... وكان بديهيا مع سقوط ما يجمع أن يتخذ الصراع على السلطة منحى مذهبيا مدمرا... فانبرى الشيعة يحاولون تعويض ظلمهم الطويل واستبعادهم عن مركز القرار بالهيمنة على الحكم فى ظل الاحتلال الأمريكى. لكن تجربتهم كانت رديئة بكل المعانى، سياسيا واجتماعيا، فحركت عوامل الفتنة، ثم فتحت الباب للتدخل الأجنبى، أمريكيا وإيرانيا، على مصراعيه. ومع افتقاد المرجعية السياسية العربية المؤهلة والقادرة، ساد مناخ الفتنة، لا سيما وأن الحكم الفئوى غرق فى الفساد حتى أذنيه.

وكان بديهيا أن يتمدد مناخ الفتنة إلى سوريا حيث انكشف النظام عبر مواجهة معارضيه الذين وجدوا مَن يسلحهم ويرعاهم تحت لافتة إعادة الحقوق للأكثرية السنية بعدما احتكر العلويون السلطة لخمسة عقود تقريبا. وكانت تركيا أردوغان السباقة فى الانتقال من موقع الصديق الحميم لبشار الأسد إلى العدو القومى والطائفى والسياسى. ثم انضم إليها بعض أقطار الخليج، وقفزت قطر، فجأة، إلى موقع قيادة الهجوم. وهكذا نشأ حلف تركى ـ خليجى يقاتل «الحكم المتعسف»، الذى تحول إلى «حكم طائفى يضطهد السنة».

***
فى مثل هذه الأجواء المذهبية كان طبيعيا أن تتعاظم قوة التنظيمات الأصولية الآتية من الجاهلية حاملة راية إسلامية مع السكاكين.. وصار التنافس بين تنظيمين منحدرين من «القاعدة» أولهما «جبهة النصرة» والثانية وهى الأقوى إمكانات والحديدية تنظيما هى «الدولة الإسلامية فى العراق والشام».

ولقد سمحت حالة التفكك التى يعيشها العراق، بانقساماته المذهبية والعرقية، بأن تخترق طوابير «داعش» أرضه بلا قتال، وأن «تأخذ» الموصل بكل سلاح الجيش الذى كان فيها ومعه نحو خمسمئة مليون دولار كانت فى خزينة المحافظة، وأن تتقدم فى اتجاه بغداد مجتاحة المدن والبلدات كما السكين فى الزبدة... قبل أن تنتبه بغداد أو تنبه فيجبر رئيس الحكومة نورى المالكى على الاستقالة. ويأتى بديله من تنظيم «الدعوة» ذاته، وعبر «تفاهم» إيرانى ـ أمريكى مكرر، تبدأ محاولة صد هذا الزحف الداعشى الذى تعاظمت قواته العسكرية وإمكاناته المادية، خصوصا وقد جند الشبيبة، بل الأطفال أبناء العاشرة، لنشر راية الإسلام بين المسلمين!

كذلك فإن تمدد الحرب فى سوريا وعليها قد أنهكت الجيش، فاستطاعت جحافل «داعش» أن تحتل الرقة بداية، ثم تتمدد منها فى اتجاه الحسكة ودير الزور. ومع اشتداد المقاومة فى العراق اندفعت «داعش» عبر بادية الشام لتحتل تدمر، بقلعتها وآثارها التاريخية العريقة التى تشهد لملكتها زنوبيا. وهكذا صارت لـ«داعش» السيطرة على نصف مساحة سوريا، وهى بغالبيتها صحراء، فى حين تصادمت مع جبهة النصرة فى الشمال، عند الحدود مع تركيا.. وكان على «السلطان» أردوغان الخارج من الانتخابات بهزيمة سياسية ضيعت عليه بعض أحلام السلطنة، أن يتدخل حتى لا تكون الحرب بين «داعش» و«النصرة» فيفيد منها نظام بشار الأسد.

بالمقابل وفى الطرف البعيد للوطن العربى، اليمن، اكتشفت السعودية ومعها دول مجلس التعاون الخليجى، أن جماعة سياسية (حزب أنصار الله) تشكل خطرا عليها، لا سيما بعد اتهامها بالتحالف مع إيران ومع الرئيس اليمنى المخلوع على عبدالله صالح، فشنت الحرب على اليمن شمالا وجنوبا... وهى لاتزال مستمرة فى انتظار الوصول إلى صيغة سياسية تطمئن مملكة الذهب إلى أن جارها اليمن غارق فى الخراب، ولن تقوم له قائمة خلال قرن، مثلا.. وإن كان هذا لا يطمئنها كفاية بعد كل ما أصاب اليمنيين فى أرواحهم وعمرانهم من خسائر فادحة «تؤبد» استقرارهم فى فقر مدقع لن يؤثر على عصيانهم.

***

هل هذه نهاية العروبة؟

هل أمكن لمجموعة من الأنظمة المطعون فى قدرتها على استقطاب مجاميع شعبها وتوحيدها حول أهدافها المشروعة فى دولة عادلة لكل أبنائها، أن تدمر الفكرة الجامعة التى جسدت، لفترة، آمال العرب فى التحرر والوحدة والسيادة على بلدانهم والتقدم بها نحو الانتماء إلى العصر؟

أم أن الفكرة أقوى وأبقى، خصوصا وأن الدعوات البديلة تأخذ إلى الجحيم، ولن يجد أى شعب عربى بديلا من هويته ومن نضاله لإعادة بناء دولته بعد تحريرها من كل هذه المجموعة المتكاملة من الأعداء: الخارج الأمريكى، وضمنه إسرائيل، والطائفية والمذهبية والشبق إلى السلطة ولو على حساب وحدة الأرض والشعب؟

بعد قرن أو يزيد ها هم عرب المشرق، على الأقل، يعودون إلى نقطة الصفر.

الرحمة للشهداء.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved