ليه يا حمام بتنوح ليه

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 17 يونيو 2017 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

صوت الشيخ الراحل «أحمد برين» يطاردنى وهو يغنى «ليه يا حمام بتنوح ليه، فكرت عليا الحبايب، أنا قلبى مكوى ومجروح على فراق الحبايب، هجرونى مع المجاريح فى هواهم قلبى دايب، سجنونى وأخدوا المفاتيح، قالوا سجانك غايب. رقوا انظروا حالى، جسمى صبح بالى، على فراق الحبايب». أسمعه مرة تلو الأخرى، على اليوتيوب، فتظل معانيه وأحاسيسه معى طوال اليوم. أحاول الاستماع إلى النسخة الحديثة التى أطلقتها قبل أيام «مريم صالح» من هذه الأغنية الفولكلورية، بالاشتراك مع الفريق السويدى «كراش نومادا»، وأهدتها إلى روح الشيخ الضرير الموهوب الذى رحل عن عالمنا فى الثلاثين من يونيو سنة 2015، فأترحم على الأخير الذى اشتهرت الأغنية بأدائه. أعلم أنه لا مجال للمقارنة فالشيخ أحمد برين، الذى ولد فى مدينة إسنا فى أواخر ثلاثينات القرن الفائت، هو علم من أعلام الغناء الصوفى والمديح والسيرة والارتجال. ومريم صالح فنانة معاصرة موهوبة تغوص فى عوالم موسيقية مصرية وعربية مختلفة، تحى بعضها وتذكرنا بها أو تعيد صياغتها كما يحلو لها. وفى حالة «ليه يا حمام بتنوح ليه» اعتمدت النسخة الأخيرة من العمل على أسلوب المزج الموسيقى، كما هو متبع عادة عندما يتم تعديل عمل شعبى محلى ليندرج تحت مسمى «موسيقى العالم». مريم صالح تبدأ بترديد المذهب، ثم يترجم المعنى نفسه بالسويدية مغنى الفرقة الأول ــ راجنار باى.

المذاق طبعا غير المذاق، والجمهور أيضا، حتى لو ساعد التناول الجديد على انتشار العمل بشكل أكبر، عالميا أو محليا بين الشباب الذى يعيد اكتشاف تراثه فى كثير من الأحيان من خلال الإنترنت، الذى ساهم دون شك فى رواج الأغنية الصوفية والسيرة على سبيل المثال لا الحصر.

•••

أسترجع الكثير من أعمال الشيخ أحمد برين، أحد أهم «حكواتية» الجنوب الذى ظل يغنى بمصاحبة آلات إيقاعية بسيطة كالدف والرق، والذى طالما أبهرنا بطريقته فى تلوين صوته وجسمه وما ملكت يداه من ميكرفون وأكواب ماء وخلافه، لكى يصدر إيقاعات مختلفة تقود مخيلتنا إلى مجالس الذكر وحلقات المتصوفة، وتشعرنا بوجود الطبيعة من حولنا، بالنيل والهواء والأحبة والأديان والتربة الخصبة التى كانت تستوعب الكل. لأن الشيخ الأزهرى، الذى تعلم القرآن ودرس أصول الدين، كان يخلط الدينى بالدنيوى، الحكمة بالحكاية، السيرة الشعبية بالموشحات والغناء الكنسى القبطى، فقد ولد فى قرية «الدير شرق» بالقرب من إسنا، التى سميت كذلك لوجود دير للرهبان الأقباط الأرثوذكس فيها. لذا برع الشيخ فى فن الغناء المقدس عموما، بما فيه الإنشاد القبطى، وساهم دوما فى إحياء مناسبات دينية مسيحية، منها مولد العذراء بقرية درنكة. يبدأ بعض أغنياته دون موسيقى وكأنه يرتل القرآن الكريم، ثم ينطلق بسلاسة من إيقاع إلى آخر ليتحدث عن الهجر والظلم والصبر والبعد أو ليحكى قصة سيدنا موسى والخضر، أو ليشدو «يا بساط اللوز يا وردى، كل من يعشق جمالا، وأنا المسكين يا وعدى».

أتوقف طويلا عند الإيقاع الذى يفضح عادة هوية المؤدى. الشيخ برين ظل مداحا ومنشدا ومغنيا ومطربا مصريا أصيلا حتى النخاع، لم يحب أن يترك قريته وظل مقيما بها، ينتقل بين المقامات والإيقاعات ببراعة أم كلثوم. وعندما يفعل ذلك نشعر بالفارق بينه وبين سواه من الفنانين والموسيقيين الذين حتى لو قرروا أن يمتهنوا المديح والإنشاد التقليديين فهم يحملون تأثيرات دينية وثقافية مختلفة، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة من خلال حفلات الغناء الدينى والصوفى الرمضانية. نشعر غالبا أن هؤلاء ينتمون لمجتمع مختلف تبلورت ملامحه منذ الثمانينات، لثقافة موسيقية معولمة لها وكلاء معتمدون، لدولة إسلامية ممتدة الحدود ليست عربية فقط، بل تحمل موسيقاها إيقاعات هندية وباكستانية وسنغالية إلى ما غير ذلك.

•••

الأصوات التى كانت تصدح مثلا فى فناء مركز الربع بالقاهرة الفاطمية كانت جميلة للغاية ومتمكنة وقوية، تنطلق من موشح «يا فاتن الغزلان اسمح وكلمنى» الذى برع فى أدائه صباح فخرى وصبرى مدلل وكل من اشتهر بالتراث الحلبى، لكى توصل الموشح بأغنية دينية أحدث، وهذا ما كان يفعله أحيانا الشيخ أحمد برين، لكن الروح والتأثيرات تختلف عن تلك التى لمسناها فى حفلة الربع مع فرقة «الرضوان» التى أسسها قبل أكثر من ثلاثين عامًا الفنان السورى عبدالقادر المرعشلى، أحد من سخروا حياتهم لخدمة النشيد الإسلامى كنوع من أنواع الدعوة. الجمهور يحفظ ما يغنى سواء للفرقة أو للغير عن ظهر قلب. الشباب والسيدات يجلسن على الأرض، وقد ارتدت بعض النساء والفتيات عباءات شرقية اختلطت فيها الطرز وصيحات الموضة. هناك من وضعت فى أصبعها ما يشبه الخاتم الملون، لكنه بمثابة جهاز صغير لعد التسابيح، وهناك من تمسك بمسبحة من الأحجار الكريمة التى أتت بها من الهند، إلى جانب القلادة الآسيوية التى لبستها حول عنقها لطرد الطاقة السلبية.. مجتمع لحاله يمزج الصوفية بالدعوة وثقافة اليوجا أو تعاليم الحضارات القديمة، وقد ينتمى بعض مريديه لتيارات دينية بعينها. ينجذب لكل ما هو روحى، لكن بأسلوب مختلف عن مصر التى كان يمثلها الشيخ أحمد برين، وهم أيضا لا يشبهون من ستعجبهم النسخة الجديدة لأغنية «يا حمام بتنوح ليه» لمريم صالح بالتعاون مع الفريق السويدى.

الدينى والدنيوى لا يختلطان بالطريقة نفسها منذ ثمانينات القرن الفائت، مع صعود التيارات الإسلامية من ناحية، وانفتاح المجتمعات على العالم تدريجيًا من ناحية أخرى. وخلال الثمانينات أيضًا بدأ الولع الغربى بالغناء الصوفى، وروج له المتحمسون لما يسمى «بموسيقى العالم» التى تخلط بين العناصر التقليدية والعناصر الحديثة. وفى العام 1985 تحديدًا زار الشيخ أحمد برين فرنسا لأول مرة، كغيره ممن يمثلون الموسيقى الصوفية والغناء الشعبى المصرى، كان يحيى الحفلات هناك، لكنه يرجع فورا إلى قريته التى حملها بداخله قبل كل شىء، والتى لم تعد تمثل بالطبع المجتمع الذى عرفه هو والذى فارقه العديد من الحبايب، ولم يبق له سوى نوح الحمام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved