عودة التهديد المالى

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الخميس 17 يونيو 2021 - 1:05 م بتوقيت القاهرة

نشر مركز بروجيكت سينديكيت مقالا للكاتب محمد العريان.. نعرض منه ما يلى.
بعد اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008، تعهدت حكومات الاقتصادات المتقدمة وبنوكها المركزية بأنها لن تسمح للنظام المصرفى بعد ذلك أبدا باحتجاز السياسة رهينة له، ناهيك عن تهديد الرفاهة الاقتصادية والاجتماعية. بعد مرور ثلاثة عشر عاما، لم تف الاقتصادات المتقدمة بهذا التعهد إلا جزئيا. والآن، يهدد جزء آخر من التمويل بإفساد ما يفترض أن يجلب ــ فى حقيقة الأمر، يجب أن يجلب ــ التعافى الدائم الشامل والمستدام من صدمة جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد ــ 19) المروعة.
رُويَـت قصة أزمة 2008 عدة مرات. فى انبهاره إزاء الكيفية التى عملت بها الإبداعات المالية، بما فى ذلك تحويل الديون إلى أوراق مالية، على تقطيع وتشريح المخاطر، تراجع القطاع العام لإفساح مجال أكبر للتمويل لاجتراح المعجزات. حتى إن بعض البلدان ذهبت إلى ما هو أبعد من تبنى نهج «اللمسة الخفيفة» فى تنظيم البنوك والإشراف عليها، وتنافست بشدة لتتحول إلى مراكز عالمية أكبر للخدمات المصرفية، بصرف النظر عن حجم اقتصاداتها الحقيقية.
ما لم ينتبه إليه أحد فى كل هذا هو أن التمويل وقع فى قبضة ديناميكية خطيرة جاوزت هدفها وكانت واضحة سابقا مع إبداعات أخرى كبرى مثل المحرك البخارى والألياف الضوئية. فى كل من هذه الحالات، كان الوصول السهل والرخيص إلى أنشطة كانت فى السابق بعيدة المنال إلى حد كبير سببا فى تغذية جولة أولى شديدة الحماس من فرط الإنتاج وفرط الاستهلاك.
من المؤكد أن مصانع الائتمان والروافع المالية فى وال ستريت تجاوزت كل الحدود، فأغرقت سوق الإسكان وقطاعات أخرى بمنتجات مالية جديدة تشتمل على قِـلة من الضمانات. ولضمان الاستيعاب السريع، خفف المقرضون فى البداية معاييرهم ــ بما فى ذلك من خلال تقديم ما يسمى «رهن النينجا العقارى» (بدون دخل، أو وظيفة، أو أصول) الذى لم يكن يتطلب تقديم أى وثائق تدل على الجدارة الائتمانية من جانب المقترض ــ ثم انخرطوا فى تجارة ضخمة فيما بينهم.
•••
عندما أدركت الحكومات والبنوك المركزية حقيقة ما يجرى، كان الأوان فات. باستخدام عبارة الاقتصادى الأمريكى هربرت شتاين، فإن ما كان غير مستدام أثبت كونه غير مستدام. هدد الانهيار المالى الذى أعقب ذلك بإحداث كساد عالمى واضطر صناع السياسات إلى إنقاذ أولئك الذين تسبب سلوكهم المتهور فى خلق المشكلة فى المقام الأول.
لا شك أن صناع السياسات أيضا قدموا تدابير «لإزالة مخاطر» البنوك. فقد زادوا من احتياطيات رأس المال، وعملوا على تعزيز الإشراف فى الموقع، وحظروا أنشطة بعينها. ولكن على الرغم من نجاح الحكومات والبنوك المركزية فى الحد من المخاطر الجهازية الناشئة عن النظام المصرفى، فإنها فشلت فى فهم ومراقبة ما حدث لهذه المخاطر عن كثب.
فى إطار هذه العملية، سارع القطاع غير المصرفى الذى لا يزال خاضعا لقدر طفيف من الإشراف والتنظيم إلى شغل الفراغ. وبهذا، استمر القطاع المالى فى النمو بشكل ملحوظ، سواء من حيث القيمة المطلقة أو نسبة إلى الاقتصادات الوطنية. وتعثرت البنوك المركزية فى حالة من الاتكالية المتبادلة غير الصحية مع الأسواق، ففقدت مرونة السياسات وجازفت بخسارة مصداقيتها فى الأمد الأبعد والتى تُـعَـد حاسمة لضمان فعاليتها. فى هذه العملية، ارتفعت الأصول الخاضعة للإدارة والديون الهامشية إلى مستويات غير مسبوقة، وكانت هذه أيضا حال المديونية وميزانية الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى العمومية.
•••
نظرا للأحجام التى انطوى عليها هذا الأمر، فليس من المستغرب أن تتقدم البنوك المركزية على وجه الخصوص بحرص وحذر شديدين هذه الأيام، خشية أن تتسبب فى تعطيل أو إرباك الأسواق المالية على النحو الذى قد يقوض التعافى الاقتصادى بعد الجائحة. على طريق القطاع المالى السريع؛ حيث يقود عدد كبير للغاية من المشاركين بسرعة هائلة ــ وبعضهم بتهور واضح ــ كدنا نتعرض بالفعل لثلاث حوادث هذا العام تشمل سوق الديون الحكومية، وتثبيت مستثمرى التجزئة لصناديق التحوط فى الزاوية، ومكتب الأسر المفرط فى استخدام الروافع المالية الذى تسبب فى خسارة حفنة من البنوك ما يقدر بنحو 10 مليارات دولار. وبفضل بعض الحظ الحسن، وليس تدابير منع الأزمات الرسمية، لم تتسبب أى من هذه الحوادث فى إشعال حرائق كبرى فى النظام المالى ككل.
يبدو أن علاقة الاتكالية المتبادلة التى تطورت لفترة طويلة بين البنوك المركزية والقطاع المالى دفعت صناع السياسات إلى الاعتقاد بأنهم ليس لديهم أى اختيار غير عزل القطاع عن الواقع القاسى الذى فرضته الجائحة. وأسفر هذا عن انفصال أشد إذهالا بين «وال ستريت» و«مين ستريت»، وأعطى دَفعة إضافية مقلقة للتفاوت فى الثروة. خلال الأشهر الاثنى عشر التى سبقت إبريل 2021، زادت ثروة أصحاب المليارات المجمعة فى القائمة العالمية السنوية التى تنشرها مجلة فوربس بمقدار غير مسبوق بلغ 5 تريليونات دولار، لتصل إلى 13 تريليون دولار. وارتفع عدد أصحاب المليارات فى العالم بنحو 700 عن العام السابق، ليصل إلى أعلى مستوياته على الإطلاق بأكثر من 2700.
من غير الحكمة أن يأمل صناع السياسات فى الأفضل وحسب ــ إنه على وجه التحديد ذلك النوع من الحلول المالية المفاجئة التى تأت على نحو أشبه بالمعجزة؛ حيث يعوض التعافى الاقتصادى القوى والسريع عن الزيادة الهائلة فى الديون، والروافع المالية، وتقييم الأصول. بدلا من ذلك، ينبغى لهم أن يتحركوا الآن لتخفيف المخاطر المفرطة التى يخوضها القطاع المالى. ويجب أن يشمل هذا احتواء وخفض الديون الهامشية؛ وفرض معايير ملاءمة أقوى على الوسطاء؛ وتعزيز تقييم المؤسسات غير المصرفية والإشراف عليها وتنظيمها؛ وتقليص المزايا الضريبية لمكاسب الاستثمار المفضلة حاليا.
الواقع أن هذه الخطوات، سواء فرادى أو فى مجموعها، ليست فى حد ذاتها علاجا سحريا لمشكلة مستمرة ومتنامية. لكن هذا ليس عذرا للمزيد من التأخير. وكلما طال أمد سماح صناع السياسات للديناميكيات الحالية بالنمو، كلما تعاظم الخطر الذى يهدد الرفاهة الاقتصادية والاجتماعية، وكلما زاد خطر اندلاع أزمة أخرى ــ على نحو غير عادل وعلى الرغم من عشر سنوات من الوعود ــ فى ذات القطاع وكما حدث فى المرة السابقة.
النص الأصلى
https://bit.ly/3xtfIbf

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved