النسوية والاستعمار بين السلطة والمقاومة في فكر فوكو

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: السبت 17 يونيو 2023 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

يُعد الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو (Michel Foucault1926ــ1984) من أهم المفكرين الغربيين فى النصف الثانى بالقرن العشرين، فهو الأكثر تأثيرا فى فلسفة ما بعد الحداثة، تركزت أبحاثه حول الممارسات التى يقوم بها الإنسان فى سياق وضع تاريخى معين من أجل التعرُّف على تأثير «السلطة» و«المعرفة» على الذات والمجتمع، ويَبرز جانب تجديده الفكرى بأنه منذ الفيلسوف الإنجليزى فرانسيس بيكون (Francis Bacon 1561ــ1626) ــ أول من اعتبر المعرفة سلطة ــ لم يعالج أحد من مفكرى الغرب مسألة «المعرفة» و«السلطة» بنفس العمق الذى عالجها بها فوكو.
كان فوكو يعتبر نفسه «مثقفا من أهل التخصص»، وليس «مثقفا شموليا» على طريقة سلفه جون بول سارتر، فكانت رسالته للدكتوراه عن «تاريخ الجنون فى العصر الكلاسيكى»، وأسَّس «فريق الإخبار بحال السجون» الذى كان يستقصى من خلاله أحوال المعتقلين فى السجون لإدانة الوضع الذى كانوا يعيشونه؛ تركزت اجتهاداته حول خمسة أسئلة أساسية: 1ــ ماذا يمكن للإنسان أن يقوله حول ذاته حين يفكر فيها لا من منظور العقل وإنما من منظور اللاعقل؟ (تاريخ الجنون، 1961) ، 2ــ كيف ينظر إلى ذاته حينما يدركها انطلاقا من ظاهرة المرض؟ (ميلاد العيادة، 1963)، 3ــ كيف يبنى ذاته من جهة كونه كائنا حيا ناطقا فعَّالا؟ (الكلمات والأشياء، 1966)، 4ــ كيف تبدو للإنسان محاكمته لذاته من حيث خضوعه للمراقبة وللعقاب؟ (المراقبة والعقاب، 1975)، وأخيرا 5ــ كيف ينظر الإنسان إلى رغباته ويهتم بذاته؟ (ثلاثية تاريخ الحياة الجنسية، 1976ــ1984).
كان إذن تخصصه الدقيق البحث عن ظاهرة الجنون بكل أشكالها وأنواعها، وبهذا فإن فوكو لم ينظر إلى الإنسان الغربى من جهة تعقله وعافيته وحريته، وإنما نظر إليه من جانب ما يعارض ذاتيته ويقلق سلامته؛ نعنى الجنون والمرض والعقاب والمراقبة والسلطة والمعرفة وفى مقابلها «المقاومة»، وكانت أعماله فى صميم هذا التوجه!
كما توصل فوكو إلى أن ظاهرة الجنون جزء لا يتجزأ من تاريخ الحضارة الغربية ــ حتى وإن أنكرها الغرب أو قمعها ــ فهذه الظاهرة جعلت الحضارة الغربية تتميَّز بـ«الإقصاء»، وهذه النظرة الثاقبة ــ من وجهة نظرنا ــ كشفت عن جوهر العقل أو الفكر الأوروبى بشكل عام، وذلك على عكس ما هو موجود فى الحضارة الشرقية من الحكمة والعقل والإنسانية..، وكلها مفاهيم جاءت من الأديان السماوية التى نزلت فى الشرق العربى.
• • •
تذكرت هذه الأفكار وصاحبها عندما دُعيت مناقشا لرسالة دكتوراه فى الأدب المقارن بين النسوية الغربية، وتحديدا الفرنسية، فى مقابل وضع المرأة فى الشريعة الإسلامية؛ موضوع الرسالة شَيِّق، ولا يخلو من النقاش على مر العصور، إلا أن الباحث ــ مثل غالبية الباحثين فى عدد لا بأس به من الجامعات العربية وباعتباره شرقيا ــ وقع فى شَرَك البُعد عن «الموضوعية» المطلوبة من أى باحث، فأخذ يدافع عن هويته الدينية، بينما كان يجب عليه أن يتجرد من «ذاتيته»، ومن كل انتماءاته، ليصل للحقيقة التى يبحث عنها فى رسالته، خاصة إذا كانت رسالته موجهة لجمهور الغرب؛ فلا يُعقل أن تكون مرجعيته التى يحتج بها على ادعاءات المفكرين والمفكرات الغربيين (من أمثال سيمون دو بوفوار) من القرآن الكريم، ومن الأحاديث النبوية الشريفة، ومن الأئمة الأربعة الأفاضل وفقط، خاصة وأن المتلقى الغربى هو فى أغلب الأحوال «ملحد» لا يؤمن بالأديان عامة، فما بالنا بالحوار معه بمرجعية إسلامية فقط!
فالحوار مع الآخر المختلف فى الحضارة والدين له أصوله، وأهمها أن نتحدث معه من مبادئ ومفاهيم حضارته، وكان ضروريا علىّ كمناقش أن أبحث خارج الصندوق، فكانت أفكار ميشيل فوكو أنسب مادة علمية ألجأ إليها كمنطلق لبداية الحوار (نقدا وتحليلا) عن النسوية الفرنسية باعتباره فيلسوفا فرنسيا له شهرته وثقله الكبير لدى الغربيين!
يؤمن فوكو بنوعين من «المقاومة»: الأول ــ الأكثر شيوعا ــ حدده فى حركتين تحريريتين: 1ــ مقاومة «الاستعمار» أو «سلطة الاحتلال»، 2ــ «الحركة النسوية» التى تقاوم سلطة الرجل، وقد اعتبر فوكو أن هذا النوع من المقاومة تكون البداية من السلطة، فتنشأ معها المقاومة، وتصبح جزءا لا يتجزأ من السلطة ذاتها التى تقاومها، فالمقاومة تتبنى أفكار السلطة ومبادئها وأسلوبها البراجماتى سواء باستخدام العنف أو القوة بين الطرفين أو غير ذلك، ويرى أنه أينما توجد «سلطة» توجد «مقاومة»، والعكس صحيح، وبالتالى المقاومة ليست منفصلة عن السلطة بل هى نتاج لها، ولذا وجد فوكو أن هذا النوع من المقاومة لا يحقق أهدافه، ويُحرز فشلا لأنه يصبح «إقصائيا» مثل «سلطة» الاحتلال أو «سلطة» الرجل عند النسوية الغربية!
إلا أن هذا التحليل لا يمكن الأخذ به فى الحركات التحررية «النسوية» ــ خاصة من وجهة نظر الأديان السماوية ــ لأن علاقة الرجل بالمرأة علاقة إنسانية لا يمكن وصفها بالصراع مثلما تحاول أن تقنعنا الحركات النسوية فى الغرب، ولكننا فى الشرق ــللأسفــ نُساق لهذا الفكر المرضى، لأن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة «تكامل»، بينما الصراع ينشأ بين طرفين بينهما مصالح متضاربة، كما هو الوضع فى الحرب الروسية/الأوكرانية، فكلاهما يعتدى على الآخر، وفى نفس الوقت ينكران ما يقومان به، ومن هنا تسقط فرضية روسيا المعتدية وأوكرانيا الضحية، وخير دليل على ذلك تبادل الاتهامات بين الدولتين بشأن تفجير سد «كاخوفسكايا»، ومن قبل تفجير خط إمدادات الغاز الطبيعى «نورد ستريم 2»، وبالتالى تسقط نظرية «ملائكية» أوكرانيا و«شيطنة» روسيا، وهكذا يتضح لنا «الإقصاء» من الطرفين، وعليه تضيع قضية «العدالة» التى تحاول كل من الدولتين نسبتها إليها، فتفقد المقاومة شرعيتها أو على الأقل أنها ضحية للآخر، وهذا يتفق مع رؤية فوكو، وبالتالى لا يحق لحكومة كييف ــ من هذا المنطلق ــ الادعاء بأنها تحافظ على «القيم الأوروبية»، وهذا يمكن أن يفقدها مساندة شعوب ألمانيا وفرنسا وبولندا، وربما ينضمون للشعوب الأوروبية الأخرى مثل المجر وإيطاليا واليونان...!
وأما النوع الثانى من «المقاومة» حيث عكس فوكو المعادلة الأولى، وجعل «المقاومة» فى البداية قبل «السلطة»، فتصبح منفصلة تماما عن السلطة، لأنها تكون سابقة لها فى الوجود، ولكن هذا يتطلب من «المقاومة» ــ فى هذه الحالة ــ أن تُغيِّر من طبيعتها ومن كيانها حتى تصبح مختلفة عن السلطة، ولهذا تطالب الحركات النسوية الغربية بأن تُغيِّر المرأة من طبيعتها وخلقتها!
• • •
هكذا تدعو أشهر النسويات الفرنسيات E. Badinter الرجل أن يعترف بأن المرأة تحمل بداخلها جزءا من «الذكورة» يتطور، وبدأ يتغلب على ذكورة الرجل، فهى تدعى أن المرأة الآن أصبحت أقوى من الرجل، والرجل أصبح يَغار منها، كما ادعت مع غيرها أن الذكر مخلوق معقد لأنه خُلق من امرأة (جنس مختلف عنه)، ويبحث عن هويته، بينما الأنثى خُلقت من امرأة مثلها فهى متناسقة مع كيانها، وهنا تتحول العلاقة بين الجنسين إلى صراع دائم، وفضلا عن ذلك فإن هذا الفكر ــ من وجهة نظرنا ــ يُبرر للبعض الدعوة لـ«المثلية» ولـ«الحب الواحد» حيث لا صراع، ولكنه انحراف، وبالأحرى «جنون» تلك الصفة التى ميَّز بها فوكو الحضارة الغربية، كما سبق الذكر!
مع العلم بأن فوكو رأى أن النوع الثانى من المقاومة يستحيل وجوده، وعليه فهى مقاومة لا وجود لها، وبالتالى توصل إلى أن النوعين من المقاومة لا يحققان غرضهما، وكلاهما يسبح فى دائرة مفرغة! وبهذا نرى أن النتيجة التى توصل إليها فوكو بالفشل فى نوعَى المقاومة (الملتصقة بالسلطة والمنفصلة عنها) فيها نقد لاذع للحركات النسوية «الغربية»، إلا أنه لم يطرح خريطة طريق تحفظ لكل طرف حقوقه، تجعل الرجل والمرأة يعيشان فى سلام، وبالتالى تنجح الأسرة الصغيرة نواة المجتمع الكبير!
أما نحن فنؤكد أن خريطة الطريق مطروحة منذ أزمنة بعيدة فى كل الأديان السماوية، وهذا على عكس ما ادعته حلقة أخيرا فى برنامج بإحدى القنوات الشهيرة ــ معروفة بعدائها للأديان ــ بعنوان «الأديان السماوية نقمة على النساء!»..
ونحن هنا نذكر كيف ساوت الشريعة الإسلامية بين الرجل والمرأة، بما لا يدعو لوجود سبب للمقاومة، عندما نبهت بأن جميع الناس خلقوا من رجل واحد وأم واحدة، وأن بعضهم من بعض، وأن حق بعضهم على بعض واجب، كما فى قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرا ونِسَاء واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا» (النساء:1) .
كما يُعتبر القرآن الكريم الكتاب الوحيد الذى سبق الجميع فوجه رسالته منذ القدم للرجل مثل الأنثى على قدم المساواة على المستوى اللغوى، كما على المستوى الإنسانى، فيقول سبحانه: «إِنَّ ٱلمُسلِمِينَ وَٱلمُسلِمَٰتِ وَٱلمُؤمِنِينَ وَٱلمُؤمِنَٰتِ وَٱلقَٰنِتِينَ وَٱلقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلخَٰشِعِينَ وَٱلخَٰشِعَٰتِ وَٱلمُتَصَدِّقِينَ وَٱلمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ وَٱلحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُم وَٱلحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغفِرَة وَأَجرا عَظِيما» (الأحزاب 35) .
لقد وصف الله العلاقة الزوجية بأنها علاقة مودة ورحمة: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّة وَرَحْمَة إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (الروم 21)، وهذا لا ينفى عدم وجود خلافات تنشأ بينهما، يمكن أن توصف بمقاومة المرأة لسلطة الرجل، ولكنها لا تصل أبدا لصراع، وإنما يمكن تشبيهها بمقاومة الأبناء لوالديهم (الأب والأم) فى مرحلة المراهقة ــ على سبيل المثال ــ وما إن تهدأ عاصفة المراهقة فيصبح الأبناء أصدقاء لوالديهم، وتعود العلاقة لطبيعتها من حب واحترام وتقدير!
هكذا يكون الحوار مع الغرب الذى لا يكف عن بث الفرقة والفتنة بين الرجل والمرأة، كما يبثها بين الدول والأجناس والأعراق المختلفة، إنها حالة الجنون التى يعيشها العالم الغربى، ويُحاول أن ينقلها إلى كل بقاع الأرض!

أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية) ــ جامعة الأزهر

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved