متى أوان الاستراتيجية الثقافية العربية؟

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 17 يوليه 2019 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

منذ أربعة عقود تقريبا وضعت المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة (أليكسو) استراتيجية شاملة تقدمية للثقافة العربية الواحدة. كان وراء ذلك الحماس الملتزم بالهوية العروبية المشتركة وكل تجلياتها الثقافية العديد من وزراء التربية وكبار موظفى الجامعة العربية وأليكسو المثقفين العضويين الملتزمين بوحدة أمتهم العربية ووطنهم العربى الكبير.
لكن حكومات تلك الفترة، المنشغلة بخلافات وصراعات السياسة وأيديولوجياتها، وببناء قبضات الأمن الحديدية، لم تُعر تلك الاستراتيجية اهتمامها المطلوب، فكان أن دخلت الأدراج وطواها النسيان، كما طوى غيرها من الاستراتيجيات الكثيرة الأخرى فى شتى الحقول.
مرَت تقريبا ثلاثون سنة قبل أن ينتبه رؤساء الدول العربية لأهمية الموضوع ويقرروا فى اجتماع إحدى قممهم سنة 2010 ضرورة عقد قمة ثقافية عربية لصوغ رؤية ثقافية مستقبلية للدول العربية، وبطلب من أليكسو ودائرة الثقافة فى الجامعة العربية، بالتعاون مع مؤسسة الفكر العربى ومجموعة منتقاة من المثقفين العرب، وضع استراتيجية ثقافية لتقدم إلى اجتماع القمة الثقافية فى المستقبل القريب.
لكن ما إن بدأت الاجتماعات لوضع ذلك الطلب موضوع التنفيذ حتى انفجرت حراكات وثورات الجماهير العربية فى العديد من الأقطار العربية سنة 2011، فتوقف تنفيذ المشروع بفعل دخول الأنظمة والمجتمعات العربية فى خلافات وصراعات وجنون الجحيم الذى نكتوى جميعا بنيرانه إلى يومنا هذا. تراجعت أهمية الثقافة أمام الصعود المذهل للسياسة العبثية غير المسئولة، وللأمن العنفى غير المنضبط، وللإرهاب الجهادى التكفيرى المدعى صفة الإسلام زورا وبهتانا وتطاولا، ولاستباحة وطن العرب من قبل الاستعمار والصهيونية واستخباراتهما، وللخلافات الطائفية والعنصرية والقبلية الطفولية.
ومع تراجع الثقافة انزوى المثقفون إما فى منافى الهجرة، وإما فى زبونية السياسة وانتهازياتها، وإما فى عزلة اليأس والقنوط وتدمير الذات. ولم يبق إلا القليل ممن لا زالوا يقبضون على الجمر بصبر وإصرار ومسئولية.
أمام مثل هذا المشهد المحبط يجب أن يطرح سؤالان مفصليان:
الأول: هل آن الأوان، كجزء من لملمة الحياة العربية المنهكة، للرجوع إلى محاولة وضع تصور لاستراتيجية ثقافية عربية وتقديمها إلى اجتماع قمة للرؤساء العرب فى القريب العاجل، فلعل ذلك يقنعهم بأن الثقافة يمكن أن تكون أحد مداخل إرجاع العافية للجسد العربى؟
والثانى: هل حقا يُرجى من أناس ساهم منهم، بقصد أو بدون قصد، فى الدمار المادى والمعنوى الذى حل بأرض العرب وبشر العرب، أن ينقذوا الثقافة، بعد أن فرطوا فى السياسة والاقتصاد والاجتماع؟
بصراحة ليس لدى شخصيا إجابات شافية مقنعة لهذين السؤالين المتحديين للعقل وللضمير وللالتزام القومى. غير أن المسئولية القومية تحتم على (أليكسو) أن تطرح على نفسها السؤال الأول على الأقل وأن لا تسمح لنفسها أن تقف عاجزة أمام ما حل من علل وتشوهات بالثقافة العربية الجمعية من جراء جرائم ومجرمى الخارج والداخل.
أما الجواب على السؤال الثانى فليتركوه لمؤسسات المجتمعات العربية المدنية المناضلة، فهى كفيلة وقادرة على أن تتعامل مع الملابسات التى تحيط به، طال الزمن أم قصر، من خلال نضالها السياسى السلمى التراكمى. وتاريخ وتضحيات هذه الأمة عبر العصور شاهدا على ذلك.
نحن الآن أمام ثقافة جمعية يريد لها البعض أن تدخل فى صراع عبثى مع الثقافات الفرعية تمهيدا لإيجاد تمزُقات وتشظيات اجتماعية تقود إلى إضعاف الهوية العروبية الجامعة الممتدة فى أعماق الزمن وعلى امتداد الجغرافيا العربية، أمام ثقافة يراد لها أن تكون فى تضاد بليد مع ثقافة العصر وثقافات الآخرين لتصبح منغلقة على ذاتها وغارقة فى سلفيتها، أمام ثقافة مليئة بالثنائيات المتصارعة بسبب الخوف من كل تجديد، أمام ثقافة يراد لها أن تكون بعيدة عن المعرفة العلمية والعقلية ولكن قريبة من سطحية وشعاراتية وهذرية الإعلام المظهرى النفعى المفقر للعقل والروح، أمام ثقافة غير نقدية ولا تجاوزية تجتر ذاتها سنة بعد سنة من قبل مؤسسات تعليم فاشلة مرعوبة. ولذلك تقف حائرة أمام الثقافة العولمية المليئة بالعلل والأخطار دون قدرة على الصد أو الحماية الندية.
من هنا، وخوفا على التكوينات العقلية الفكرية والشعورية والروحية لشباب وشابات المستقبل العربى، نحتاج للرجوع إلى موضوع الثقافة العربية من جديد، بعد أن فعلت السنون والأحداث بهذه الثقافة الأمل والنهوض مافعلت، ولنبدأ من حيث أجبرتنا الأحداث الكارثية على التوقف.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved