الندَّاهة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 17 يوليه 2020 - 7:00 م بتوقيت القاهرة

تقول الأسطورةُ التي تحملها ثقافاتٌ مُتعددة وإن في أثوابٍ مُختلفة؛ إن امرأةً جميلة لا يعرفها أحدٌ، تظهر ليلًا، وتشرع في النداءِ باسم أحد الأشخاص؛ فيُفتَتَن الشخصُ على الفور بندائها، ويُسارع إلى تلبيتِه فاقدَ العقلِ والإدراك، لا يدري أنه يسير إلى حتفِه أو على أقلّ تقديرٍ إلى جُنونٍ لا يُفيق مِنه. تتخذ هذه المرأةُ الندَّاهة هيئاتٍ مُتنوعة؛ تُرى مرات في الحقولِ هائمة، ومرات هي عروسُ بحرٍ تستقرُّ على صَخرةٍ، وسواء كانت هذه أو تلك؛ فنتيجةُ الانصياع لإغوائِها واحدة.
***
صارت المرأةُ النداهة رمزًا لقوةٍ خفيَّةٍ طاغية، تستحيلُ مقاومتُها ما تمكَّنت مِن الضحِية. قوةٌ تجتذبُ إليها هؤلاء الذين لا يلتزمون الحيطةَ والحذرَ، ويتركون آذانَهم لندائِها وغنائِها. ظهرت تنويعات فنّية تقتبس روحَ الأسطورة؛ تارة تجعلها ماديَّةً مَلموسة وتارة أخرى تستخدمُ الرمزَ والإسقاط. تظهر في قصة أناتول فرانس "تاييس" الراقصةُ اللعوب، التي يلحق بها رجلُ دينٍ ليُقنِعها بطريقِ الربّ وجمالِ الفضِيلة، فتقنعه هي بطريقِها، وتأخذه مِن حياتِه لحياتِها.
***
في فيلم "النداهة" المأخوذ عن قصةٍ تحملُ العنوانَ ذاتَه ليوسف إدريس، والذي لعبت بطولته ماجدة مع شكري سرحان، وأخرجه حسين كمال في مُنتصفِ السبعينيات؛ تقع المدينةُ مَوقعَ النداهةِ الساحرة، بعنفوانِها وصخبِها، وبجاذبيتِها التي لا يستطيع الحالمون الفكاكَ مِن أسرِها. ينخرطون في دوَّامتِها العميقة، ويحملون وجعَ أشواكِها، ولا يتصورون أبدًا ابتعادَهم عنها؛ مهما كان عمق الألم. المدينةُ نداهةٌ والنداهةُ لا تستسلم إلى أن يقعَ في ولهِها المَندوه.
***
تذكرت الأسطورةَ الأولى، وما حاق بها مِن حكاياتٍ وخيالات؛ بعضها مُسل والآخر يُخيف؛ حين طالعت على الصفحاتِ الأولى مِن الجرائدِ اليَوميَّة، أخبارًا عن غَرقى جُدد في شاطئ مَعروف وقديم. الشاطئُ مَوجود في منطقة العجمي؛ اسمُه "النخيل"، والمنطقة مَشهورة إجمالًا بخطورةِ سواحلِها وصُعوبةِ بحرِها؛ ولو كان النازلُ إليه مُتمَرسًا بالسباحةِ، عارفًا بقواعدها ومُلمًا بأصولها.
***
غرقى بَحر النخيل يصعبُ إحصاؤُهم؛ إذ يزداد العددُ عامًا بعد عام، ويتصاعد مَوسِمَ صَيفٍ تلو آخر. تنشرُ الصُحفُ الحوادثَ وتنعى مَن لم يخرجوا مِن أحشاءِ البَحر، ومَن خرجوا جثامين وتركوا أرواحَهم فيه. مع هذا؛ لا يفتأ الناسُ يشدُّون إليه الرحالَ، ويلقون بأنفسهم في المياه، وكأنهم مَجذوبون إليها بغيرِ إرادة.
***
يختفي واحدٌ فيبادر إليه ثانٍ ثم ثالثٌ، ويتضاعفُ العَدَدُ ولا يتراجع أحدٌ أو حتى يتردَّد. لا يُفكر الذاهب أنه مثله مثل الآخرين؛ لن يكون أمهرَ منهم ولا أفضلَ حظًا، وأن مِن الحِكمةِ أن يطلبَ المُساعدةَ أو ينتظر المُعجزة. لا يفكّر واحدٌ أنه سيصبح رقمًا في القائمةِ، وأن رقمًا سَبقَه وآخرَ سوف يلِيه. يبتلع البحرُ في جَوْفِه رجالًا أشداءَ وصغارًا ونساءً، وكأن النداهةَ الكامِنةَ بين الأمواج لا تكتفي ولا تشْبع؛ لما لا وفي المُفردةِ صيغةُ مُبالغةٍ؟ النداهةُ بتشديد الدال؛ كثيرة النداءِ، عظيمةُ البأسِ، عارمةُ الحُسْن، لا تهدأ إلى أن تنالَ مُرادها.
***
الثابتُ أن غرقى الحادثِ الأخير الذي وقع منذ أيامٍ معدودة؛ قد خاضوا المياهَ فجرًا. تسلَّلوا إلى الشاطئ المُغلَق، وانطلقوا بكاملِ إرادتِهم إلى المَصير. يأتي عشراتُ الناسِ إلى الشواطئِ في هذا التوقيت؛ يجدون فيه راحتَهم ربما، يريدون اللحاقَ باليوم منذ بدايتِه ربما، يتوارون عن أعينِ الفُضوليين أيضًا ربما؛ وأمام المزايا الظاهرة، لا يحسبون لعوامِل المَدّ والجَزر حسابًا، ولا يتهيبون خفوتَ الضوءِ وغيابَ الشمسِ، وانعدامِ شُروطِ الأمان.
***
اقتناصُ مُتعةٍ صغيرةٍ مَجَّانية لا تنوء بحملِها الأكتافُ؛ أمرٌ مُغرٍ، وهو كافٍ في عرف كثير الناسِ كي يتحملوا المَخاطرَ، ويتجاهلوا المآسيَ التي وَقعت مِن قبل. يغضُّون أنظارَهم عن تعليماتٍ تبدو سخيفة، ويطمئنون أنفسَهم ومَن معهم لجدارتِهم بنيلِ ساعاتٍ قليلة مِن الترفيه، تخلو مِن أي خسارة؛ لكن المشهدَ الذي يصيغون وفقًا لرغباتِهم وأمنياتِهم البسيطة، لا ينتهي في العادة كما يرجون؛ إذ النهايات السعيدة لا تصنعها الندَّاهة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved