رحلة البحث عن مدينة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 17 يوليه 2021 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

عاد الزوجان إلى المدينة الساحلية التى لم يزوراها منذ حوالى خمسة وثلاثين عاما. أحدهما قضى جزءا من طفولته فيها وأراد أن يقتفى أثر الذكريات بعد أن اقترب من التسعين. حرص على أن تشاركه أسرته رحلة الحنين تلك، وبالطبع لا يوجد أنسب من إجازة الصيف لاستيفاء الغرض، فالرجوع إلى أماكن الطفولة مع أفراد العائلة من شأنه أن يقوى الروابط بينهم ويجعل الأبناء والأحفاد ينتمون إلى رواية تاريخية موحدة. يشعرون أن لهم جذورا وإرثا من الذكريات التى ستظل عالقة بالدماغ حتى لو تبدلت أو اختفت هذه الأماكن التى حفظوا معالمها عن غيب قبل أن يزوروها بسبب الصور والحكايات، ركيزة يستندون إليها فى الزمن الصعب وتبث فى نفوسهم شيئا من الطمأنينة والسعادة.
الأب نفسه تبدل مزاجه إلى الأحسن بمجرد أن وطئت قدمه هذه المدينة ببحرها المتآكل. نسى الكورونا وأخطارها وصار على سجيته، يريد أن يلهو ويروى دعابة تلو الأخرى، ويسترجع الذى مضى عندما كان طفلا شعره ينزل على جبينه وهو جالس على الشاطئ بجوار والده فى ثلاثينيات أو أربعينيات القرن الفائت، فهذه هى الصورة العائلية الوحيدة التى عرف من خلالها الأحفاد شكل الجد الذى لم يكن محبا للتصوير وتسجيل اللقطات التذكارية، عرفوه فقط بالمايوه على شاطئ رأس البر بجسمه النحيل وشعره الكثيف بعد أن خط القليل من الشيب رأسه.
***
غرق فى طوفان من الذكريات، رغم أنه لم يبق شيء على حاله بهذه المدينة. لم يعد هناك «عشش»، أو الأكواخ والبيوت التقليدية التى بُنيت من الحصير والخشب، بعد أن تحولت جميعها إلى مبانٍ أسمنتية ضخمة مزخرفة مثل تلك التى نجدها فى بعض أحياء التجمع الخامس ذات الذوق الخليجى. اختفت حتى البيوت الأسمنتية البسيطة التى كانت فى السبعينيات والثمانينيات، وعم طراز معمارى واحد سخيف تحت مسمى التطوير والتحديث. فى زياراته السابقة، قبل عدة سنوات، كان يمكنه الاستدلال على الطريق وفق الخريطة القديمة التى لم ينسها قط، لكن هذه المرة البنايات الضخمة أعطت انطباعا أن الشوارع صارت أضيق وأقل رحابة.
ظل دون جدوى يبحث عن «الطفطف» الذى كان يستخدم للتجول فى المدينة التى لم تعد تمت بصلة لرأس البر كما احتفظ بها فى خياله، صارت مجرد مدينة ضمن أماكن أخرى كثيرة ماسخة، دون رائحة أو طعم. اهتزت الصورة وأصيب الزائر العائد بعد سنوات بخيبة الأمل، لكنه ظل يعافر رغم فقده لكل علاماته الدالة. أراد أن يذهب إلى السوق حيث الفطاطرى، مقهى التجار سابقا، الذى كان يرتاده والده، ثم فندق «مارين فؤاد» الذى تحول هو الآخر إلى مبنى خرسانى، ثم كانت «فقرة» الحلوانى حين دخل بصحبة زوجته إلى أحد المحال الذائعة الصيت لشراء بعض الأصناف التقليدية التى اشتهرت بها دمياط ورأس البر. جاء بالطبع «المِشبِك» على رأس القائمة، لكنهما أمضيا وقتا طويلا ليشرحا للبائعين نوع حلوى جوز الهند الذى يبحثان عنه حتى توصلا أخيرا إلى «اللديدة والحمام» بلونيهما البرتقالى والأبيض. حتى الحلوى صارت تشبه من بعيد تلك التى عرفاها فى السابق، لكنها مليئة بالسكر وطعمها تغير للأسوأ، ليس من باب الحنين للماضى والنوستالجيا والصراع بين القديم والحديث، لكن من منظور واقعى.
لا يعرف الزائر الثمانينى كيف يتجاوب مع الأشخاص الذى يقابل ويتحدثون عن حسنات التطوير، وهو لم ير سوى تدهور الأحوال. يلاحظ امتزاج اللهجات خلال حديثهم، فلم تعد الغلبة لأهل دمياط، وهو ما أكده النادل فى الفندق حين تكلم عن سيطرة أهل الدقهلية بقراها ومدنها على المصيف، شارحا كيف امتلكوا الكثير من المنازل وأعادوا بناءها «بشكل فاخر» لترتفع أسعار العقارات، «اشتروا العشة بـ150 ألفا وأصبحت الشقة تسوى حاليا خمسة ملايين».
***
يقدم الأب خطوة ويؤخر خطوة. إحباطات الذكريات لا تتركه فى حاله، إلا أن الأمل يراوده ثانيةً، فيندفع إلى مكان آخر يبحث عنه متعلقا بمجد قديم. يرفض أن تكون مدينة طفولته قد تعرضت لموجة «تسونامى» أو مجموعة أمواج عاتية دمرت كل ما عرف فى السابق. ليس فى مقدوره حتى أن يقف على أنقاض المدينة التى عاش فيها، فقد كان التغيير جذريا.. تقريبا لم يعد هناك أنقاض، احتفظت بعض الأماكن والأشياء بأسمائها، لكنها لم تعد تشبه أى شيء يتذكره، وهو ما يحدث فى سائر أنحاء مصر المحروسة.
حكايات المدن وتحولاتها لا تتعلق فقط بفكرة الاستمرارية والوجود من عدمه والحفاظ على التراث الثقافى إلى ما غير ذلك، لكنها تشى أيضا بالكثير حول الحياة السياسية والاجتماعية والعلاقة بالسلطة ونجاحاتها وإخفاقاتها ومساعيها. غاب كل ذلك عن ذهنه، أراد فقط أن يسترجع بعض الذكريات المحفورة فى ذهنه والتى تشكل عادةً جزءا مهما من تكويننا الشخصى وهويتنا، وأفاق على واقع مختلف تماما. روح المكان اختلفت، ولا يعلم الآن ما الذى سيرويه عن المدينة؟ على الأرجح سيتمسك بحكاياته القديمة وأصوات الباعة الجائلين وأغنياتهم التى اختلطت فى ذاكرته برائحة البحر ومظاهر الفرح، فمن حقه أن يحتفظ لنفسه بدور الراوى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved