يا لها من شفافية

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الجمعة 17 أغسطس 2012 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

لا أذكر أن كلمة «شفافية» كانت تستخدم على الإطلاق، فى مجال السياسة، منذ عشرين عاما، أو ثلاثين على الأكثر. نعم، كانت تستخدم للتمييز بين أنواع من الورق مثلا، أو بين مادتين كالزجاج والخشب...الخ، أما استخدامها للتمييز بين أنواع من الحكم والنظم السياسية، فلم يكن شائعا فى ذلك الوقت. الآن، ما أكثر أن نصادف الكلمة فى التمييز بين نظام ديمقراطى وآخر ديكتاتورى، وفى بيان الشروط التى يقال انها يجب أن تتوافر فى النظام السياسى لضمان اشتراك الناس فى مراقبة الحكام، والتأثير فيما يتخذونه من قرارات...الخ.

 

لا اعتراض لدىّ بالطبع على القول بمزايا الشفافية فى الحكم وعيوب كتمان الحقيقة، ولكننى لا أخفى عن القارئ ما لاحظته من أن شيوع استخدام هذه الكلمة، وكثرة ترديدها، قد اقترنا بزيادة ندرة هذه الصفة، واختفائها أكثر فأكثر من الحياة السياسية فى أكثر الدول، حتى الدول التى تعتبر عريقة فى الديمقراطية، فإذا بالناس، حتى فى تلك الدول، تفاجأ أكثر فأكثر، بقرارات تتخذ من وراء ظهورهم، حتى فيما يتعلق بأمور خطيرة كشن حرب يقع فيها الآلاف من الضحايا، وتتكلف البلايين من الجنيهات أو الدولارات، فلا يقال للناس فيها شىء مفيد عن أسباب اتخاذ القرار، ولا يُُعرض القرار لمناقشة تليق بأهميته، قبل تنفيذه، بل وتتجاهل السلطة مشاعر الناس الذين يرفضون مثل هذه القرارات رفضا باتا، ويعبرون عن رفضهم لها بمظاهرات واعتصامات لا لبس فيها.

 

لم تكن هذه أول مرة يشيع فيها استخدام لفظ ذى معنى نبيل، فى نفس الوقت الذى يأخذ مدلوله فى التلاشى من الوجود، فيزيد ترديد اللفظ مع زيادة ندرة تطبيقه فى الواقع. قلت لنفسى إن الأمر ليس غريبا فى الحقيقة، إذ كثيرا ما يلجأ المرء إلى كثرة الكلام عن شىء، لمجرد تضليل من حوله عن أنه لا وجود له فى الواقع، فما أكثر الكلام عن الحب مثلا، الذى يصدر من شخص لا يضمر أى حب فى الحقيقة.

 

•••

 

تذكرت موضوع «الشفافية» عندما استيقظنا فى أحد أيام الأسبوع الماضى على خبر مثير للغاية، ومفاجئ إلى أقصى حد. رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسى يحيل إلى التقاعد شخصين كانا حتى المساء السابق مباشرة، يعتبران أقوى رجلين فى البلاد، (أو على الأقل من أقوى الرجال). كان أحدهما يتمتع بأكبر قدر من السلطات التشريعية والتنفيذية حتى أسابيع قليلة ماضية (وقد يقول البعض بل حتى صباح اتخاذ هذا القرار بإحالته إلى التقاعد) والثانى كان يحتل منصبا رفيعا للغاية فى الجيش المصرى، وعضوا فى أعلى مجلس فى البلاد منذ ثورة يناير 2011 (ويعتقد كثيرون أن تأثيره الحقيقى لا يقل بل وقد يفوق نفوذ رئيس هذا المجلس). والرجل الذى أصدر قرار الإحالة إلى التقاعد، لا نعرف الكثير بعد عن صفاته الشخصية أو عن مدى حزمه وجرأته، وكان الكثيرون يعتقدون أنه لا يستطيع اتخاذ قرارات خطيرة دون موافقة هذين الرجلين اللذين أحالهما إلى التقاعد.

 

الأمر مهم جدا إذن ولم يكن متوقعا بالمرة، ولابد أن يكون له آثار بعيدة المدى ستشهدها البلاد فى الأيام المقبلة، ومن ثم لابد أن تكون له أسباب خطيرة بدورها، فما هى هذه الأسباب الخطيرة يا ترى؟

 

لا يقال لنا أى شىء هل هذا معقول؟ وبعد ثورة شعبية رائعة طالبت بالحرية والكرامة؟ وبعد سنة ونصف السنة لم يتوقف فيها الكلام عن الديمقراطية وشروطها، وعن الدستور ومايجب أن يتضمنه من مواد لحماية حقوق الإنسان، وعما إذا كانت المادة الخاصة بالشريعة الإسلامية ستشترط أن يكون مصدر التشريع مبادئ الشريعة الإسلامية أم أحكامها...الخ؟ أليست الشفافية جزءا لا يتجزأ من هذا كله؟ من  توفير الحرية والكرامة، ومن تحقيق الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، ومن تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها؟ خاصة إذا كانت الشفافية تتعلق بأسباب تنحية شخصين من أهم الشخصيات فى البلاد؟

 

•••

 

أسئلة كثيرة لابد أن تدور فى الذهن. من بينها الأسئلة التالية: لماذا يعامل المصريون دائما هذه المعاملة؟ هل طال عهد المصريين بمثل هذا الكتمان حتى اعتادوا عليه ولم يعودوا يتوقعون شيئا غيره؟ فلنتذكر مثلا كيف فوجئ المصريون طوال الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين عاما الماضية بأسماء رؤساء الوزراء الذين يختارهم رئيس الجمهورية (وكأنه يلتقط اسما من عدد كبير من الأسماء المكتوبة على أوراق موضوعة فى إناء أو قبعة، لأشخاص يعرفهم الناس أو لا يعرفونهم، لهم تاريخ سياسى أو ليس لهم)، فلا يتكرم علينا رئيس الجمهورية بالافصاح عن أسباب اختيار هذا الرجل دون ذاك، ثم عن الأسباب التى دعته إلى تنحيته أو إقالته...الخ.

 

فى هذه المرة أيضا لا يُذكر لنا أى سبب. ليس هذا فحسب، بل تُتلى علينا قرارات متناقضة، مثلما كان يحدث فى معظم المرات السابقة. الرجل يُحال إلى التقاعد، ولكنه يعين مستشارا لرئيس الجمهورية. (كان هذا أيضا يحدث من قبل أو يُعين فيما يسمى بالمجالس القومية المتخصصة). ليس هذا فحسب، بل يقلد الرجلان أعلى النياشين فى الدولة (مثلما حدث من قبل مع وزير من وزراء الإسكان مثلا، يقضى الآن فترة عقوبة على ما ارتكبه وهو وزير للإسكان).

 

المطلوب منا أن نسمع ونسكت. وأقصى ما يُسمح لنا به هو الفرح أو الحزن، الاعجاب بالقرار أو استنكاره، على حسب ما إذا كنا من المعجبين بهذين الرجلين اللذين أحيلا إلى التقاعد أو من غير المعجبين. قد يُسمح لنا أيضا بالتعبير بأدب عن هذا الفرح أو الحزن، أما السؤال عن السبب، فهو شىء أقرب إلى قلة الأدب. (خاصة فى مواجهة رئيس جديد للجمهورية جاء بطريقة ديمقراطية وانتخاب حر ولابد من تشجيعه).

 

•••

 

أفكار أخرى كثيرة تطوف بالذهن عندما يسمع المرء قرارا كهذا. من بينها السؤال الآتى: هل يمكن لأحد أن يلوم شخصا عُرض عليه تولى منصب مهم خلال الشهور القليلة السابقة، فُرفض؟ هل يلام شخص كهذا يرفض أن يتولى منصبا مهما المفروض أن يقدم من خلاله خدمة جليلة للوطن، إذا كان لا يقال له شىء عن سبب اختياره هو دون غيره، أو سبب اختيار زميل له لمنصب له نفس الأهمية أو أكثر، ولا يستحقه فى الواقع، أو سبب الإطاحة بهذا الزميل أو ذاك؟ هل المنصب المهم مجرد أبهة وتفاخر أمام الناس، والحصول على كشك للحراسة أمام المنزل، والانتقال من مكان لآخر فى موكب فاخر؟

 

هناك أيضا سؤال آخر: ان تعيين أحد الرجلين اللذين تمت إحالتهما إلى التقاعد، فى منصب وزير الدفاع فى الحكومة الجديدة، لم تمض عليه إلا أيام قليلة. فما الذى حدث خلال هذه الأيام القليلة مما دعا إلى إحالته إلى التقاعد؟ لا يمكن أن يكون السبب الحاجة إلى ضخ دماء جديدة أو إلى الاستعانة برجال أصغر سنا. فمثل هذه الحاجة لا تنشأ أو تتغير بسرعة بين يوم وآخر. إن أهم ما حدث فى الأيام القليلة السابقة على قرار الإحالة إلى التقاعد هو الاعتداء الوحشى على الضباط والجنود المصريين فى سيناء. فهل هناك علاقة بين هذا الحادث وهذا القرار؟ ليس أمامنا إلا التخمين.

 

هناك أيضا سؤال آخر. لماذا، على ضوء هذا كله، يرفض أحد ما يسمى بـ«نظرية المؤامرة» فى تفسير ما يحدث فى مصر أو غيرها من بلاد مماثلة؟ إن التآمر لا يعنى أكثر من إعداد شىء غير مرغوب فيه فى الخفاء أما الخفاء فهو بالضبط ما نتكلم عنه الآن. وأما كون هذا الذى يُعد فى الخفاء شيئا مرغوبا أو غير مرغوب فيه، فمن الذى يستطيع أن يقول الإجابة الصحيحة، إذا كان كل شىء يتم فى مثل هذا الظلام الدامس؟ وإذا كان الذى يُعد لنا فى الخفاء شيئا عظيما حقا، وفى صالح البلاد، فلماذا لا يقال لنا بصراحة؟ ولماذا الخروج عن «الشفافية» إذا لم يكن هناك شىء يستحق الاخفاء؟

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved