رؤية للريف المتجدد.. الاقتصاد البيئي

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الثلاثاء 17 أغسطس 2021 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

«الاقتصاد القادم» كان عنوان معرض بينالى العمارة الدولى فى روتردام عام 2016 وكان لدى فضول كبير للتعرف على محتوياته عن قرب بعد أن حاولت سابقا أن أشارك به ولكنى لم أوفق. كان العنوان عجيبا بعض الشىء بالنسبة للمعارض العمرانية، ولكن حضور الفعاليات والاستماع للمنسق العام ورؤية بعض المشاركات عن قرب نبهتنى لهذه القضية التى عادة ما يقلل من أهميتها الكثيرون، وليس المعماريون والعمرانيون فقط. وبمقارنة المعارض المعمارية والعمرانية التى حضرتها قبل ذلك أو بعده بقليل، مثل بينالى فينيسا للعمارة أو إكسبو ميلان الذى تناول مستقبل الطعام، بدا الفرق الشاسع ليس فقط بالسعى لربط العمارة والعمران بالتحديات الحقيقية لكوكبنا ولكل الكائنات عليه ولكن لأنه أيضا استشرف بعضا من صور هذا الاقتصاد الجيد سواء فى إنتاج الطعام أو إنتاج الطاقة أو التنقل وغير ذلك من خلال بعض التجارب والمشروعات الرائدة.
الفرضية وراء المعرض كانت أن البيئة المبينة هى إلى حد كبير نتاج لطبيعة الاقتصاد الذى يحكم الأنشطة الرئيسية بها، ولأن الاقتصاد السائد، وخاصة الرأسمالية فى صورتها النيوليبرالية، هى أحد الأسباب الرئيسية وراء المشكلات التى يعانى منها كوكبنا ومدننا وقرانا، فإننا بحاجة للانتقال لاقتصاد آخر يمكننا من الاستمرار فى الحياة بصورة أكثر استدامة وكرامة. تناول بعض المشاركين من خلال عرض مجموعة من المشروعات والأفكار بعض لمحات من هذا المستقبل؛ والتى شملت مشروعات مستقبلية لإنتاج طاقة الرياح بصورة كبيرة من البحار الواقعة فى شمال أوروبا وهو ما يتحقق حاليا. وأيضا عرضت مشروعات من عدة أماكن فى العالم تتناول إنتاج الطعام. كما عرضت مشروعات لطرق التنقل المستدام والتى تقلل الحاجة لاستخدام الطاقة الأحفورية وكان هناك تركيز واضح على الدراجات الهوائية وكيفية نشر استخدامها بأكبر صورة ممكنة داخل المدن.
•••
من نتائج الاهتمام بدراسة الاقتصاد البيئى فى أوروبا مثلا فرض ما يسمى ضريبة الكربون التى تطبقها كنتيجة للدراسات التى أظهرت أن سعر بيع وقود السيارات لا يجب أن يكون ببساطة سعر تكلفة شرائه وهامش الأرباح، ولكنه يجب أيضا أن يشمل التعويض عن الأضرار الناتجة عن تلوث الهواء والتى تتسبب فى أمراض للكائنات الحية وأولها البشر، وعلى ذلك يجب أن يشمل السعر العادل تكلفة تغطية تلك المخاطر الصحية وتحسين جودة الهواء وهو ما اصطلح على تسميته ضريبة الكربون.
التعامل مع التغير المناخى كإطار من خلاله نتعرف على البيئة الطبيعية مكننا من تقدير أهمية إدخال التأثير البيئى، سلبا أو إيجابا، فى تقدير تكلفة أو عائد أى مشروع لأنه بدون ذلك ربما تكون النتائج غير دقيقة أو خادعة. ومازلنا نتطلع لإشراك باحثين وباحثات فى دراسة الاقتصاد البيئى لتنمية القرية ونتمنى أن يكونوا قادرين على تحمل فضولنا وأسئلتنا المستمرة. وتوضح الدراسة التى قام بها البنك الدولى فى نهاية 2019 مدى أهمية الانشغال بالاقتصاد البيئى لأنه أظهر بوضوح الخسارة الكبيرة للغاية التى نتحملها جميعا نتيجة لتلوث المياه والهواء، وقد قدرت الدراسة أن مدينة القاهرة تخسر سنويا ما يعادل 47 مليار دولار نتيجة لهذا التلوث.
والتحدى الذى يواجهنا هو؛ هل ننتظر البدء فى تلك الدراسات التى نحتاجها بشدة ثم الانتهاء منها حتى نحصل على البيانات الضرورية التى تمكنا من المضى قدما بصورة أكثر ثباتا؟ ما يجعل هذا السؤال إشكاليا ما خلص إليه كبار باحثى البيئة من أن الفرصة المتاحة لدينا لإصلاح المنظومة الطبيعية للأرض تمتد فقط حتى نهاية هذا العقد، أى بحلول العام 2030، وإلا سنواجه ويواجه أولادنا ظروفا ربما يكونوا غير قادرين على التعامل معها. وبعد الحرائق ودرجات الحرارة القياسية والفيضانات التى ضربت مناطق مختلفة من الأرض فى الأسابيع الماضية بدأ البعض فى التشكك من أن تلك الفرصة ربما تكون أقل من ذلك.
•••
تقديرنا الأولى هو أن نستثمر فى فهم جيد ومتطور للواقع وارتباطاته المتعددة، ثم أدركنا بمرور الوقت أنه ربما أمكننا استخدام البيانات المتاحة، حتى وإن كانت غير كاملة، لرسم رؤية مبدئية يمكنها أن تساهم فى بداية تحول جذرى للبيئة العمرانية سواء فى الريف أو المدينة. وفى تلك الرؤية لابد أن يكون للاقتصاد البيئى ركن هام يمكن من التحاور مع المسئولين والمهتمين والمجتمع المحلى وحتى نتمكن من الترويج لهذا التحول. وقدرنا أننا ربما نستطيع لفترة زمنية محددة استخدام نتائج الأبحاث التى تخرج فى دول أخرى والتى تتناول ما يشبه المبادئ التى قد تكون ذات علاقة بأحوالنا حتى نتمكن من اختصار بعض من الوقت الثمين والبدء فى بعض التجارب والمشاريع الرائدة الصغيرة والتى ستسهم بصورة كبيرة، ليس فقط فى بناء خبرة هامة للغاية فى تغيير الواقع، ولكنها ستنتج أيضا بيانات نستطيع إدخالها لعمل الحسابات اللازمة لحساب التكلفة والعائد الحقيقيين من المشروعات.
لنأخذ مثالا نعرفه أفضل من غيره وهو مشروع عملنا عليه لفترة ويستهدف معالجة الصرف الصحى المنزلى بصورة لا مركزية، أى كل منزل على حدة باستخدام حلول ايكولوجية. وتظهر حساباتنا الأولى لاقتصاديات هذا المشروع أن إدخال جزء من العوائد التى فى الغالب تكون غير محسوبة مثل تقدير الفائدة من تقليل تلوث المياه الجوفية (لأن المشروع يهدف إلى القضاء على خزانات التحليل فى الشوارع والتى يتسرب منها الصرف للمياه الجوفية السطحية، كما يقوم العاملون على تفريغ تلك الخزانات الأرضية فى الغالب بإلقاء مياه الصرف إما فى مصارف زراعية قريبة أو أراض يتم تلويثها). وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا المشروع يوفر من الاستخدام المنزلى للمياه ما يقرب من خمسين فى المائة أو أكثر وهو بالطبع ما يعنى توفير جزء كبير من الدعم الحكومى لتلك المياه، بالإضافة إلى أنه فى حال نشر ذلك المشروع لأغلبية السكان يمكن ألا يكون هناك حاجة لعمل مشروعات تحليلات مياه فى المستقبل القريب. ما اقترحناه هو اقتسام الفائدة الناتجة من المشروع وتعطى لمن يطبق المشروع فى صورة حوافز يمكن الاتفاق على الصورة الأمثل لها. وحتى يمكن أن يدار المشروع بصورة مستدامة اقترحنا إدارة تعاونية تملك وتدير لمصلحتها بما يحقق أكبر فائدة للناس ويدعم اقتصاد أكثر دائرية وعدالة.
•••
إدخال العوائد البيئية سلبا وإيجابا فى اقتصاديات المشروع تسمى أيضا التكلفة الحقيقية وبهذه الطريقة سيتم تشجيع تلك النوعية من المشروعات التى تعتمد على استخدام الوسائل البيئية منخفضة التكلفة ومرتفعة العائد البيئى. وعندما نتصور أننا سنحتاج لما بين خمس لعشر مشروعات أولية تجريبية تعتمد كلها التقنيات البيئية، وذلك للبدء فى عملية تحول حقيقى للقرية يكون أكثر استدامة، لأدركنا أهمية إدخال الاقتصاد البيئى فى تخطيطنا لاقتصاد متجدد فى الريف المصرى.
ما هو مهم للغاية فى تناول الاقتصاد البيئى هو قدرته على تحويل النقاش حول القضايا البيئية إلى وضع أكثر وضوحا للجميع، ويظهر الخسائر أو الفوائد التى عادة ما تهمل فى حساب التكلفة والعائد فى المشروعات بصورة جدية. وهو أيضا يساعد فى التأكيد على أن الفكرة الجوهرية فى الاقتصاد، وهى فكرة «القيمة»، هى ليست مادية فقط ولكنها فى جوهر الوجود الإنسانى والطبيعة والذى لا يمكن تقدير قيمة عناصره لأن قيمتها هى فى ذاتها ووجودها وليست فقط فى المنفعة التى تعود علينا منها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved