أحكام مسبقة على خطاب أوباما في الجمعية العامة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 17 سبتمبر 2009 - 11:42 ص بتوقيت القاهرة

 حانت ساعة تقديم أول حساب. بعد أيام يقف باراك أوباما أمام ممثلى حوالى مائتى دولة، كلهم جاءوا وأحد أهم أهدافهم المشاركة فى تقويم أداء إدارة أوباما، ويعودون إلى بلادهم يحملون أفكارا جديدة، أو على الأقل تصورا جديدا، عن مصير الحلم الكبير الذى راود شعوبهم أو عن حقيقة وهم كبير بدأ ينكشف. سيكون العرب أول الزاحفين على نيويورك، وهم عادة أولهم، إذ جرت العادة أن يقضى وزراء الخارجية العرب أياما كثيرة أو قليلة فى نيويورك قرب نهاية سبتمبر من كل عام يعقدون خلالها اجتماعا لمجلسهم ويلقون الخطب ويقضى بعضهم إجازة مدفوعة. هؤلاء كأسلافهم عرفوا منذ وقت طويل أن لا خير يرجى لقضايا بلادهم من هذه الزيارة السنوية، وأخشى أن يكونوا فقدوا الأمل فى أن يصححوا يوما ما أعطبته السياسات الارتجالية والخلافات بين القادة العرب وسوء إدارتهم للموارد عبر سنوات طويلة.

لن تختلف هذه الزيارة عن سابقاتها إلا فى الشطر المتعلق بالرئيس أوباما. إذ تنعقد الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة فى ظل حالة «عالمية» غير عادية. لم يحدث، حسبما أذكر أن جرى الترتيب لعقد جمعية عامة فى نيويورك وكان على رأس السلطة فى واشنطن رجل له شعبية كتلك التى يتمتع بها الرئيس أوباما. ربما حدث ما يشبه ذلك فى عهد الرئيس جون كنيدى وتصادف أن كان على رأس السلطة فى موسكو فى ذلك الحين خروتشوف السكرتير العام للحزب الشيوعى السوفييتى، الذى كان يتمتع بشخصية مثيرة للجدل. ومع ذلك، لم تكن الآمال المعقودة على كنيدى فى حجم الآمال المعقودة على باراك أوباما أو عمقها. وكانت أمريكا صاعدة. كانت صاعدة اقتصاديا وتكنولوجيا، وصاعدة نحو الفضاء، على عكس أمريكا الراهنة.

ولعل هذا الوضع الذى تمر فيه أمريكا الراهنة هو إحدى أسوأ البقع، التى تلوث كشف الحساب الذى يحمله أوباما معه إلى نيويورك ليعرضه على أمم العالم.. الحالم منها والواهم.

***

عرفنا على مر السنين، وتابعنا، معضلة التمييز العنصرى فى الولايات المتحدة، وعرفنا وتابعنا أيضا معضلات الفجوة الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء ودورات ارتفاع معدلات البطالة. وتوقفنا طويلا ببعض الإعجاب أحيانا والرغبة فى التماهى أحيانا أخرى أمام تجربة مثيرة فى لغة الحوار بين اليمين المحافظ واليسار الليبرالى وقوى الوسط فى الولايات المتحدة. ومع ذلك، أظن أننا لم نقف فى أى وقت شهودا على حال فرقة وانقسام كهذه الحال السائدة فى الولايات المتحدة.

سمعت كثيرا ما يذيعه الإذاعى اليمينى المتطرف روش ليمبوه، وسمعت كثيرا ما يبثه مقدمو برامج يمينيون على قناة فوكس التليفزيونية أو على غيرها، وسمعت انتقادات من نواب وشيوخ لأداء رؤساء جمهوريات، ولكنى لا أذكر أننى سمعت يوما ليمبوه يحرض الشعب على ممارسة العنف باستثناء العنف الموجه ضد العرب والمسلمين، أو سمعت كلاما مثل الكلام الذى نطق به الإعلامى «بيك» فى قناة فوكس يتهم أوباما بكراهية البيض وثقافتهم ويشعل النار ضده فى قلوب المتطرفين البيض، أو سمعت عبارة بذيئة كتلك العبارات، التى استخدمها مشرعون وسياسيون محافظون، ومنهم سارة بالين المرشحة السابقة لمنصب نائب الرئيس ومنهم أيضا نائب يصرخ فى وجه أوباما أمام زملائه وعشرات الملايين من المشاهدين ناعتا إياه بأنه رجل كاذب.

بهذه البقع على شعبيته يدخل أوباما إلى قاعة الجمعية العامة ليدلى بكشف حساب عن تسعة شهور من حكم تطلعت نحوه بأمل كبير شعوب العالم. وأثق فى أن الغالبية العظمى من مندوبى الدول الموجودين فى القاعة لم يدر فى خلد أحدهم قبل شهرين أو ثلاثة أن أوباما سوف يطل عليهم وصفحة شعبيته قد تلوثت إلى هذا الحد. كانوا يستعدون للذهاب إلى نيويورك مزودين بنية أن يغفروا له أى تقصير فى تنفيذ عهد قطعه على نفسه وإدارته خلال الحملة الانتخابية. وأعرف من أصدقاء بين الدبلوماسيين الأوروبيين أن حكومات عديدة فى دول أوروبية وآسيوية كانت تستعد بالخطب لإعلان دعمها له فى أفغانستان والمساهمة فى «تصليب عوده» فى مواجهته مع أباطرة المال والمصارف والمضاربات.

تعددت أسباب الضعف وانحسار الشعبية. فقد استمرت الأزمة المالية والاقتصادية واستمر بشكل خاص تدهور البطالة وبخاصة بين البيض. ولا يوجد خلاف كبير داخل أوساط الأكاديمية الأمريكية على أن «بطالة الرجل الأبيض» أشد خطورة على أوباما من أى عنصر آخر من عناصر الأزمة الاقتصادية، أضف إلى ما سبق الهجمة الشرسة التى شنها المحافظون وقطاع من اللبراليين واليساريين ضد تفاصيل عديدة فى خطة أوباما لإصلاح برنامج الرعاية الصحية. والواضح تماما أن أوباما أراد أن تقوم الموافقة على هذه الخطة بدور القاطرة، التى ستجر سياسات أخرى لسنوات أربع مقبلة، إن لم تزد.

======

أما الأسباب الخارجية للضعف فهى وإن بدت للرأى العام الأمريكى متصلة بأمور لا تدخل مباشرة فى اهتمامه إلا أنها عظيمة الأهمية بالنسبة للدول صاحبة الشأن وبالنسبة لهدف استعادة مكانة متميزة لأمريكا فى العالم. سئل رتشارد هولبروك، مساعد الوزيرة كلينتون لشئون أفغانستان وباكستان، عن النجاح الذى حققته سياسات أوباما فى هذه المنطقة الحساسة من العالم، فأجاب: «سنعرف عندما نراه». مرة أخرى يعلن هذا الدبلوماسى المعروف بشدة اعتزازه بنفسه وبقدراته أن السياسات الغربية فى أفغانستان لم تحقق إنجازا واضحا. وفى الواقع لم نكن بحاجة إلى هذا التأكيد من جانب هولبروك، فالوضع على الأرض يصرخ فى كل الوجوه معلنا الفشل.

فشلت خطة المؤسسة العسكرية الأمريكية فى دفع الطالبان نحو إقليم الباشتون وحشرهم فيه. وفشلت خطة الجنرال ماكريستال فى تحسين أوضاع المدنيين فى المناطق الخارجة عن سيطرة الطالبان. وفشلت أمريكا وبريطانيا فى خطة الدفع بأحد المرشحين المنافسين لقرضاى للفوز فى انتخابات الرئاسة، بل كان الفشل مضاعفا إذ بدت الدول الغربية فى وضع حرج بعد أن شنت حملة عنيفة ضد تزييف الانتخابات فى إيران وسكتت عن تزييفها فى أفغانستان الواقعة تحت هيمنتها. هذا الفشل المتكرر دفع بالمستشار السابق للرئيس كارتر للتصريح لصحيفة فايناشيال تايمز بأن أمريكا إن لم تخرج بسرعة فإنها تعرض نفسها لحرب متصاعدة تنتهى بغرقها فى أفغانستان.

ويكشف نيكولاس كريستروف الصحفى بالنيويورك تايمز عن وثيقة أعدتها مجموعة من رجال المخابرات السابقين وخبراء فى شئون أفغانستان، جاء فيها بالنص «إن صانع القرار فى واشنطن لا يفهم أن مجرد وجود أمريكا فى إقليم الباشتون يجسد لب المشكلة»، وتحذر الوثيقة من أنه «فى حال زيادة القوات الأمريكية هناك ستزداد المقاومة. إن وجودنا العسكرى فى هذا الإقليم يثبت أن الطالبان على حق». وينقل كريستوف عن دافيد ميللر عضو المجموعة والعضو السابق فى مجلس الأمن القومى قوله «إننا قلقون من أن تكون الولايات المتحدة على وشك السقوط من أعلى القمم إلى هاوية سحيقة».

من ناحية أخرى، يسود اعتقاد بأن أوباما لن يكون قاطعا ولا حاسما فى رسالته إلى حكومة إيران. فى هذا الشأن يقول برجنسكى إن أمريكا لا يمكن أن تستمر فى إطلاق التهديدات بفرض عقوبات على إيران وتتحدث عن الحرب وفى الوقت نفسه تطلب من إيران الدخول فى مفاوضات مباشرة. لقد أثبتت سياسة أوباما تجاه إيران ضيق أفقها، وستكون العواقب وخيمة إن لم تشرع إدارة أوباما فورا لحل المشكلات القائمة قبل أن تتفاقم». لا أعرف إن كان برجنسكى يقصد بالتفاقم احتمالات التدخل العسكرى الإسرائيلى، ولكنى أعرف أن هذا الاحتمال صار أقرب إلى الواقع، وأنه الآن محل درس فى دوائر استخباراتية فى موسكو وواشنطن وعواصم أوروبية وعربية. ويلمح بعض الخبراء إلى أن اسرائيل وضعت أوباما فى ورطة حقيقية بتسريب عزمها التدخل عسكريا فى إيران بدون انتظار ضوء أخضر من واشنطن أو القيادة المركزية الأمريكية بعد أن توصلت فيما يبدو إلى حل لمشكلة الممرات البحرية والجوية فى الأقاليم الواقعة بين إسرائيل وإيران.

***

أتصور أن عدد السياسين فى العواصم العربية الذين كانوا متشوقين إلى خطاب أوباما فى الجمعية العامة ليسمعوا تفاصيل خطة للتسوية فى الشرق الأوسط تضاءل جدا.
إذ تشير أغلب المؤشرات إلى أن أوباما، بضعفه الداخلى المتزايد والموقف الإسرائيلى بتصلبه وبالموقف العربى المتساهل، لن يجد داخل البيت الأبيض أو الكونجرس أو قيادات الحزبين الديمقراطى والجمهورى من يشجعه على ممارسة ضغط مؤثر على حكومة متشددة فى إسرائيل وحشود يهودية فى الولايات المتحدة معبأة بطاقة قصوى من الكراهية لإدارة أوباما.

***

أعفانى الجنرال زين الرئيس السابق للقيادة المركزية الأمريكية من التفكير فى خاتمة لهذا المقال حين قرأت تصريحه، الذى ورد فيه قوله إنه «لا يستطيع أن يتعرف على قرار استراتيجى واحد اتخذه الرئيس باراك أوباما منذ توليه الحكم فى يناير الماضى». نحن أيضا، وفى الجانب الذى يخصنا من سياسات أوباما الخارجية، نقول إننا لا نستطيع أن نتعرف على قرار استراتيجى حاسم يجدد فى شعوبنا الأمل فى أن تتغير أمريكا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved