الفيلم المسىء وما حوله..مقتل السفير وما بعده

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 17 سبتمبر 2012 - 8:35 ص بتوقيت القاهرة

تبادل الرجلان تسع رسائل بالعربية والفارسية حول الحضارات وصراعاتها، وكانت أزمة الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول الأكرم ماثلة. الأول، الرئيس الإيرانى السابق «محمد خاتمى»، وهو صاحب مشروع فكرى يتبنى حوار الحضارات ويترأس معهدا فى طهران يحمل اسمه له فرع فى جينيف.. والثانى، الأستاذ «محمد حسنين هيكل» ورؤيته تذهب إلى أن القول بصراع الحضارات فيه اعتراف بالعزلة وأن الذهاب للحوار أشبه بطلب إذن باللجوء من متظلم إلى متحكم.

 

الرسائل التسع، التى لم يتسن لها أن تنشر حتى الآن، ترجمها بين اللغتين الكاتب الصحفى الإيرانى المعروف «محمد صادق الحسينى»، وهو يتقن العربية كأهلها.

 

فى رسالة عاشرة سلمها بنفسه إلى «خاتمى»، نشرتها فى حينها، وكان ذلك فى شتاء عام (٢٠٠٦)، حذر «هيكل» من «أفخاخ تستدرج وتستنزف من هؤلاء الذين تنبهوا إلى ما لحق بالعقلية العربية والإسلامية جراء عصور القهر والظلام، فإذا هم يحاولون تثبيت الانكسار وتعميقه فى العقل وفى الإرادة لدى العرب والمسلمين، والسبيل إلى ذلك استثارتهم بين الحين والآخر بما يدفعهم أكثر وأكثر إلى عزلة البحر الميت وملوحة مياهه ومرارتها». «اكتشفوا أنه يكفيهم أن يلمسوا الثقافة العربية الإسلامية فى عزيز عليها، فإذا هى تستثار وتغضب ثم تتراجع وتتباعد بحيث تعزل نفسها وتتنازل أكثر».

 

 يبرهن «هيكل» على اطروحته بتجربة «آيات شيطانية» لـ«سلمان رشدى» (نتيجة الثورة والغضب زادت شهرة كاتبها)، وتكرر ذلك على نطاق أوسع فى تجربة «الرسوم الدنماركية» (نتيجة الثورة والغضب تكرر نشر الرسوم فى عدد من عواصم الدنيا، وكذلك سمع الناس عن رساميها وناشريها لأول مرة فى حياتهم).

 

السيناريو ذاته يتكرر للمرة الثالثة مع أزمة الفيلم المسىء، وهو فى حقيقته فيديو على اليوتيوب، ركيك فى صناعته، كأنه صنع «فى بير سلم» على ما يقول مخرجون مصريون، منتجوه سيئو السمعة، ومخرجه «سام باسيلى» يُعرف نفسه بأنه أمريكى إسرائيلى. مشاهده أقرب إلى اسكتشات هزلية تسب وتسخر فى عنصرية مقيتة تأباها الإنسانية السوية. العبارات التى أدانت «الفيلم المسىء» منسوبة لشخصيات دولية رفيعة لا مجاملة فيها للعالم العربى الغاضب، فالفيلم فعلا «بغيض» و«مقزز» و«عنصرى». الفيلم بذاته لا قيمة فيه، وضع على «اليوتيوب» فى يوليو، ولم يكن له تأثير يذكر حتى بدأت ثائرة الغضب هنا تأخذ منحى تصادميا فى حصار السفارات الأمريكية بأكثر من عاصمة عربية، وكانت صورة السفير الأمريكى «كريس ستيفينز» مسحولا فى بنغازى ذورة المشهد المضطرب، فهو ليس طرفا فى الأزمة، ولا حكومته داخلة فيها، لكنه كان ضحيتها الأولى. المثير أن السفير الذى قتله غاضبون ليبيون تنسب إليه تقارير متواترة بأن دوره كان محوريا فى إسقاط نظام «القذافى».. ومن مفارقات الأقدار أنه لقى طريقة الموت البشعة ذاتها التى لقاها العقيد الليبى.

 

هذه الصورة بالذات لها تداعيات وعواقب تتجاوز «الفيلم المسىء» وأهداف صناعه، رسائلها متداخلة فى الانتخابات الأمريكية وتقرير نتائجها، مشتبكة فى الملف السورى واحتمال مراجعة الاستراتيجية الغربية فيه، ملتبسة فى الملف المصرى وطبيعة العلاقات مع حكامه الجدد.

 

تحت أضواء الحملات الانتخابية والصراعات تحتدم فى السباق إلى البيت الأبيض تبدى الأثر المباشر لصورة السفير مقتولا وقميصه ملطخا بالدم. حدث مفاجئ فى توقيت حرج ربما يحسم نتائج الانتخابات على عكس كل التصورات والحسابات السابقة. لم يكن «باراك أوباما» ملتفتا بدرجة كبيرة للتحولات الجارية فى الشرق الأوسط، كانت تشغله الأحوال الداخلية فى الولايات المتحدة. كلما اقتربت مواعيد الانتخابات كان اهتمامه الشخصى يقل بما يجرى فى تلك المنطقة المشتعلة بالثورات والحروب الأهلية. وزيرة خارجيته «هيلارى كلينتون» بحسب شخصيات مطلعة على الكواليس العربية سألت قبل الانتخابات الرئاسية المصرية عددا من نظرائها الأوروبيين والعرب إن كان بوسعهم أن يفسروا ما يحدث فى القاهرة!

 

كانت الإجابات المتواترة: «لا».

 

الآن الوضع مختلف وصورة السفير مسحولا تطارد الأمن القومى الأمريكى بحقائقه وهواجسه معا. الهواجس تزكيها صورة أخرى جاءت هذه المرة من القاهرة برفع علم القاعدة على أسوار سفارتها.

 

«أوباما» تصرف على نحو مرتبك فى إدارة أزمة داهمته فى الوقت القاتل قبل بدء الانتخابات الأمريكية. رفض محاولات الإساءة لمعتقدات الآخرين والتحقير منها، ورفض فى الوقت ذاته العنف غير المبرر ضد السفارات الأمريكية ومقتل سفيره فى بنغازى، بدا متوازنا ولكنه تحت وطأة الهجوم الجمهورى العاصف وصف مصر بأنها «ليست دولة صديقة ولا دولة عدوة»، قبل أن يصحح متحدث رسمى التصريح الرئاسى بأن «مصر دولة مقربة». التعبير الأول فيه خشية أن يتهم بأنه هو الذى جاء بالإسلاميين إلى السلطة، وهو وحده الذى تجب محاسبته، والتعبير الثانى فيه تصحيح خشية أن تفضى التفاعلات إلى خسارة استراتيجية كبرى للولايات المتحدة الأمريكية فى الشرق الأوسط التى دأبت على وصف علاقاتها مع مصر منذ توقيع اتفاقيتى «كامب ديفيد» بـ«الاستراتيجية». ما الذى يجرى إذن فى المراجعات الأمريكية؟.. وهل بدا أمام بعض دوائر صناعة القرار أن الإدارة قد أخطأت بدعم وصول الإسلاميين إلى السلطة؟.. الارتباك الأمريكى يقابله ارتباك مماثل فى السلطة المصرية. تدين «الفيلم المسىء» خشية المزايدة عليها وتدين بالقدر ذاته الاعتداءات على السفارة الأمريكية خشية أن تفسد علاقات مازالت فى مهدها، أو أن تكون لها عواقب على أحوال اقتصادية تطمح أن تتعافى بدعم استثمارات غربية. الأداء المرتبك وصل إلى ذروته فى صفحة الإخوان المسلمين على الشبكة العنكبوتية.. باللغة الإنجليزية إدانة لاقتحام السفارة الامريكية، وباللغة العربية حملة هجوم على الولايات المتحدة. الارتباك على الجانبين تعبير عن أزمة تتفاعل وتأخذ مسارات أخرى.

 

فى السجال الأمريكى الآن تتبادل المعسكرات الانتخابية الاتهامات كضربات فوق حلبة ملاكمة تعرف مواطن الألم وتركز عليها.

 

المرشح الجمهورى «ميت رومنى» يحاول توظيف ما جرى فى بنغازى للنيل من منافسه الديمقراطى «باراك أوباما» بتهم من بينها «التعاطف مع المسلمين الغاضبين» وأن إدارته، ممثلة فى سفارتها بالقاهرة، اعتذرت عن «القيم الأمريكية» قاصدا حماية حرية التعبير والتفكير والإبداع. جعل من الحدث الدموى موضوعا مفصليا لحسم سباق الرئاسة.

 

فى مقال لافت بـ«النيوريوك تايمز» عنوانه: «رجلنا فى بنغازى» يدخل «روجر كوهين» حلبة الصراع على البيت الأبيض من زاويتين، الأولى، صداقة تربطه بالسفير «كريس ستيفينز»، الذى يراه مطلعا على الثقافات الأخرى، عنده روح دعابة، وواحدا من أفضل الدبلوماسيين الأمريكيين، و«أن أمريكيا آخر لم يبذل دورا أكبر منه فى إطاحة العقيد القذافى».

 

والثانية، انحيازه للحزب الديمقراطى ومرشحه «باراك أوباما» فى مواجهة ما يسميه «طيش» منافسه الجمهورى «ميت رومنى».

 

يلخص وجهة نظره فى السؤال التالى: «هل وصف أتباع أحد أعظم الديانات فى العالم كمغتصبى أطفال قيمة أمريكية؟»

 

اعتبر شريط الفيديو على اليوتيوب رسالة كراهية لأكثر من مليار ونصف المليار من مسلمى العالم، وأعداد منهم تعيش فى أمريكا نفسها.. «أنا كمدافع متشدد عن حرية التعبير أدافع عن حق باسيلى أو أيا كان فى أن يصنع الفيديو لكن من حق الولايات المتحدة أن تقول رأيها فى هذا الهراء».. «ما قامت به السفارة الأمريكية فى القاهرة، قبل اعتداء بنغازى، ذهب إلى إدانة أفعال الذين يسيئون استخدام حرية التعبير بجرح معتقدات الآخرين».

 

صورة السفير الأمريكى مسحولا تشبه ما جرى فى الصومال لقوات المارينز الأمريكية على عهد «بوش الأب» الذى استدعى الانسحاب من مقديشيو، وكانت تلك الصور مهينة للعسكرية الأمريكية، وأفضت تداعياتها إلى تحولات استراتيجية فى القرن الافريقى. تحولات استراتيجية من نوع مختلف قد تحدث فى المشرق العربى.

 

 فى ذات الصحيفة الامريكية ترى «جوليت كايم» أن ثمة تداعيات مختلفة فى الملف السورى من جراء مقتل السفيرالأمريكى فى ليبيا إثر بث «شريط تافه»، متوقعة أن يفرمل المجتمع الدولى خططه فى سوريا. الكاتبة تابعت من باريس تحولات السياسة الفرنسية فى الملف السورى بعد انقضاء عهد الرئيس السابق «نيكولاى ساركوزى» وصعود الرئيس الجديد «فرانسوا أولاند»، فالأول قاد «الناتو» فى عملية وصفتها بأنها تدرس: «كيف تنقذ الأرواح وتخرج بهدوء؟». الحقيقة لم تكن كذلك.. لا فى عمليات «الناتو» ولا فى أهدافه، ولا هو خرج بهدوء، فقوات المارينز تدفقت إلى السواحل الليبية عقب مقتل السفير مباشرة، ولكن تظل فرضيتها صحيحة، أن تحولات سوف تحدث فى الملف السورى متأثرة بما جرى فى بنغازى.

 

كان «ساركوزى» يعتقد أن عملية تدخل مماثلة فى سوريا يمكن أن تلقى النجاح ذاته الذى جرى فى ليبيا. خليفته «أولاند» بدأ يتبنى الاتجاه ذاته لكن ببطء وحذر. هناك فوارق جوهرية بين الحالتين الليبية والسورية على ما تلاحظ «كايم»، فـ«القذافى» لم يكن أحد يدعمه، و«الأسد» لديه حلفاء إقليميون ودوليون.. ليبيا لم تكن دولة تحرك الأحداث فى الشرق الأوسط بينما الوضع السورى يختلف، التدخل فى ليبيا لم يتسبب فى حروب إقليمية أخرى بينما فى الحالة السورية هناك مخاوف من حروب إقليمية تمتد وتتسع. عند ذروة تفكير الرئيس الفرنسى «أولاند» فى تعديل مسار سياساته تجاه سوريا جاءت ضربة قاتلة لمثل هذا التحول لخصته صورة السفير الأمريكى مسحولا فى بنغازى. «لم تعد ليبيا دليلا على احتمال النجاح فى سوريا»، الشخص الوحيد الذى ربح فى تلك التراجيديا هو «بشار الأسد» على ما تقول كاتبة «النيويورك تايمز».

 

الوقت مازال مبكرا للوقوف على تداعيات صورة السفير الامريكى مسحولا فى بنغازى على ملفات المنطقة الملتهبة، التى يجرى أحيانا التلاعب بمصائرها بألعاب نارية حول دوافعها وأطرافها أسئلة والغاز.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved