الدروس الصحيحة من التجارب الاقتصادية الأمريكية

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الجمعة 17 سبتمبر 2021 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع بروجيكت سينديكيت مقالا للكاتب دانى رودريك.. نعرض منه ما يلى.

فى غضون بضع سنوات فقط، تغيرت المحادثات بشأن السياسة الاقتصادية كليًا فى الولايات المتحدة، إذ استُبدلت النيوليبرالية، أو إجماع واشنطن، أو أصولية السوق ــ يمكنك أن تسميها ما شِئت ــ بشيء مختلف تمامًا.
وفى سياسة الاقتصاد الكلى، أدت المخاوف من الديون والتضخم إلى تفضيل سياسة الإفراط فى تحفيز الاقتصاد والتقليل من المخاطر على سياسة استقرار الأسعار. وفيما يتعلق بالضرائب، فإن الإقرار الضمنى فى سباق عالمى نحو الهاوية قد انتهى، كما أن وضع حد أدنى عالمى لمعدل الشركات متعددة الجنسيات قيد التنفيذ. أما بالنسبة للسياسة الصناعية، التى لم يكن من الممكن حتى وقت قريب ذكرها بطريقة رسمية، فقد عادت لتأخذ بالثأر.
ومازالت القائمة طويلة، إذ بينما كان لفظَى تحرير ومرونة هما الكلمتان الرنانتان فى سياسة سوق العمل، فإن الحديث الآن أصبح يدور حول الوظائف الجيدة، ومعالجة الاختلالات فى القدرة على المساومة، وتمكين العمال والنقابات. وكان يُنظر إلى شركات التكنولوجيا الكبرى والمنصات على أنها مصدر للابتكار والفوائد للمستهلكين، أما الآن فهى تعتبر احتكارات تحتاج إلى تنظيم وربما إلى تفكيك. وكانت السياسة التجارية تدور حول التقسيم العالمى للعمل والسعى إلى الكفاءة؛ أما الآن فهى تتعلق بالمرونة وحماية سلاسل التوريد المحلية.
إن بعض هذه التغييرات هى تعديلات ضرورية للتكيف مع صدمة كوفيدــ19. وقد تكون أيضًا بمثابة التحول الحتمى الناتج عن فترة طويلة من ارتفاع مستوى عدم المساواة، وانعدام الأمن الاقتصادى، وقوة السوق المركزة فى الاقتصاد الأمريكى. ولكن الفضل يعود أيضًا إلى الرئيس جو بايدن، الذى جلب فريقًا اقتصاديًا جديدًا إلى واشنطن، وسارع إلى تأييد الأفكار الجديدة على الرغم من انتقادات المتمرسين.
وكان لنموذج أصولية السوق الذى شكل سابقًا السياسة الاقتصادية فى الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا الغربية منذ ثورة ريغان ــ تاتشر فى ثمانينيات القرن الماضى أصل فكرى سابق. وطُور هذا الأخير فى القاعات الأكاديمية، وشاعَهُ المثقفون الشعبيون مثل ميلتون فريدمان.
وهذه المرة، يحاول الاقتصاديون الأكاديميون جاهدين اللحاق بالركب. ورغم أن حماس السوق الحرة قد تضاءلت بين الاقتصاديين، إلا أنه لم تكن هناك تطورات برنامجية فى الأسلوب المحافظ لـ«كينز» أو «فريدمان». وكان سيصاب صانعو السياسة ممن كانوا يتطلعون إلى الاقتصاديين للحصول على حلول بالجملة تتجاوز الإصلاح بخيبة أمل.
ومع ذلك، يبدو واضحا أن الاقتصاديين قد تأثروا بالمزاج المتغير. فعلى سبيل المثال، فى المعتكف السنوى لمحافظى البنوك المركزية المنعقد فى جاكسون هول، فى ولاية وايومنغ، نهاية أغسطس، قدم فريق من الاقتصاديين الأكاديميين من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة هارفارد ونورث وسترن، وجامعة شيكاغو ورقة توضح أن حدوث قفزة مؤقتة فى التضخم يمكن أن يكون شيئًا جيدًا. وعندما تكون الأجور متصلبة أثناء اتخاذها لمنحى الهبوط ــ فهى لا تنخفض بسهولة كما ترتفع ــ يمكن تسهيل التغيير الهيكلى من خلال زيادة الأجور فى أجزاء الاقتصاد التى تشهد ارتفاعًا فى الطلب. وعلى الرغم من أن هذا قد يتسبب فى تجاوز التضخم الكلى لهدف البنك المركزى، إلا أنه قد يكون مرغوبًا فيه من حيث إتاحته لتعديل الأجور النسبية فى مختلف القطاعات.
كذلك، كتب ديفيد أوتور من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مؤخرًا أن نقص العمالة فى الولايات المتحدة التى يشكو منها العديد من أرباب العمل هو فى الواقع أمر جيد. ويقول إن المشكلة تكمن فى أن الاقتصاد الأمريكى ينتج الكثير من الوظائف «السيئة» بأجور منخفضة ومزايا قليلة. وإذا كان الوباء قد جعل العمال الآن أكثر تطلبًا وانتقاءً، فأرباب العمل هم من يتعين عليهم التكيف. وفى النهاية، لا يتطلب كل من الإنصاف والإنتاجية المزيد من الوظائف فحسب، بل يتطلب وظائف عالية الجودة.
وتتمثل إحدى مزايا كتابات الاقتصاديين الأكاديميين فى أنها توضح الطبيعة العرضية لأولويات السياسة الحالية فى الولايات المتحدة. وتوضح دراسة جاكسون هول، على سبيل المثال، أن التضخم المؤقت هو حل مقبول فقط فى ظل ظروف معينة: عندما يكون التعديل القطاعى مدفوع بالتغيرات فى طلب المستهلك، وعندما لا يمكن للأجور أن تنخفض، وفى حال لا يعيق الحافز النقدى التغيير الهيكلى عن طريق زيادة الربحية إلى حد كبير فى القطاعات التى تحتاج إلى تقليص. وبالمقابل، فإن الأجور فى البلدان النامية مرنة للغاية فى العمالة غير الرسمية، كما أن التوسع فى القطاعات الحديثة تعيقه قيود جانب العرض. وفى ظل هذه الظروف، فإن احتمال أن تكون الحوافز النقدية أو المالية فعالة ضئيل جدا.
ومع ذلك، هناك خطر يتمثل فى إساءة فهم البلدان الأخرى للتغييرات فى الولايات المتحدة، وأن صانعى السياسات فى أماكن أخرى سوف يقلدون تقليدا أعمى العلاجات الأمريكية دون الالتفات إلى خصوصيات ظروفهم الخاصة. وعلى وجه الخصوص، يتعين على البلدان النامية التى تفتقر إلى الحيز المالى، وتضطر إلى الاقتراض بالعملات الأجنبية أن تحذر من الاعتماد المفرط على تحفيز الاقتصاد الكلى.
وتكمن المشكلة الحقيقية التى تعانى منها العديد من البلدان النامية اليوم فى أن نموذج التصنيع التقليدى الموجه نحو التصدير قد استنفد قوته. وتتطلب عملية توليد وظائف جيدة ومنتجة نموذجًا تنمويًا مختلفًا، يركز على الخدمات، والسوق المحلية، وتوسيع نطاق الطبقة الوسطى. ولا يمكن حل إخفاقات السوق أو الحكومة التى تمنع التوسع فى فرص العمل الأكثر إنتاجية فى الخدمات إلا من خلال العلاجات الهيكلية.
إننا نرحب بإعادة النظر فى السياسة الاقتصادية فى أروقة البيروقراطية الاقتصادية فى واشنطن. ولكن الدرس الحقيقى الذى يجب أن تستخلصه البلدان الأخرى منها هو أن علم الاقتصاد، بصفته علما اجتماعيا، يدعم نصائح سياسية مختلفة لظروف مختلفة. ومثلما تُنتج الظروف المتغيرة والتفضيلات السياسية فى الولايات المتحدة علاجات جديدة، من الأفضل للبلدان الأخرى أن تستهدف مشاكلها وقيودها الخاصة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved