تناقضاتُ نظامٍ دوليّ مُهْتَرِئ وعالَمٍ ممزّق..!

محمد عبدالشفيع عيسى
محمد عبدالشفيع عيسى

آخر تحديث: الجمعة 17 سبتمبر 2021 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

تشير الفترة الانتقالية الراهنة من تطور العلاقات الدولية إلى حقيقة تبدو صادمة أو «ملغزة»، تتمثل فى حقيقة مزدوجة: فمن جهة أولى، تركز القوة بين أيدى قوة وحيدة أو شبه وحيدة، كما يبدو من السلوك الدولى للولايات المتحدة الأمريكية. ومن جهة ثانية، العجز والاهتراء المميّزان للنظام الدولى فى حالته الراهنة.
يشير الأمر الأول إلى أن نمط توزيع القوة فى النظام الدولى يميل إلى تكريس نوع من الجمود النسبى وليس إلى المزيد من المرونة. يميل إلى المزيد من التركيز والمركزة وليس إلى توسيع «هامش» انتشار القوة. ونقصد هنا اتساع رقعة نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية، وتعمّق قدرتها على التغلغل الجغرافى والموضوعى فى الأقاليم المختلفة من العالم، وزيادة طابع «التعقيد» للسياسة الخارجية الأمريكية، اعتمادا على التنوع المضطرد فى شبكة صنع وإدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة: ابتداء من التدخل العسكرى المباشر وغير المباشر، وممارسة الحرب والغزو، وانتهاج أسلوب «إشعال الحرائق المحدودة»، وليس انتهاءً باستخدام وسائط الاتصال والتواصل الحديثة، ضمن الممارسة الإعلامية ــ الدعائية، ذات الطابع الأقرب إلى «الحرب النفسية» كنموذج اتصالى فى أوقات الأزمات الكبرى المفصلية، كالحروب والثورات والاضطرابات الواسعة دوليا ومحليا.
وقد أكد هذه الحقيقة اتساع رقعة النفوذ الأمريكى وتعمقه ــ عبر العقد الماضى من خلال عدة مؤشرات، من بينها: قدرة الولايات المتحدة على تجاوز الآثار المباشرة «للأزمة المالية» لعام 2008، من خلال الاستخدام الممنهج لآلية «التشابك»، وتحديث وسائل وأدوات «السياسة الاقتصادية»، وخاصة أدوات السياسة المالية والنقدية، عن طريق زيادة دور الدولة فى تحقيق «التعافى» ودفع معدل النمو الاقتصادى. ونقصد بالتشابك المشار إليه، ترابط شبكة المصالح بين الولايات المتحدة وعدد من القوى الدولية المؤثرة فى المجال المعنى، ضمن ما أصبح يسمى «مجموعة العشرين»، وخاصة الصين واليابان، والبلدان العربية فى منطقة الخليج. ولعل الحقيقة اللافتة فى هذا المقام، بصفة خاصة، هى تعمق حالة التشابك المالى والتجارى النسبى بين أمريكا والصين وخاصة حتى عام 2012، حين بدأت الصين فى توسيع نفوذها بطريقة مهدِّدة للهيمنة المالية والنقدية الأمريكية، ومدّ هذا النفوذ أفقيا على الرقعتين الأفريقية والآسيوية بالذات، وكذلك رأسيا عبر تسنّم قمم تكنولوجية حاكمة فى سلاسل الإمداد والعرض العالمية للقيمة المضافة العلمية ــ التكنولوجية. ووصل الأمر إلى حد شنّ الولايات المتحدة ــ فى ظل إدارة ترامب ــ حربا تجارية واسعة فى مواجهة الصين.
وفى المقابل، وعلى سبيل المقارنة، فإن دول الاتحاد الأوروبى كانت انتهجت سياسة اقتصادية ومالية مغايرة، أدت إلى تعميق الأزمة فى «منطقة اليورو» بعد 2010 بالذات، وليس إلى علاجها. نشير هنا إلى سياسة «التقشف المالى ــ Austerity» والتى وقع عبؤها الرئيسي ــ من جراء خفض الانفاق الحكومي ــ على محدودى الدخل والطبقة المتوسطة. وقد بلغت الأزمة حدّا مقلقا فى حالات محددة هى اليونان وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا، بينما لم تنج بريطانيا وفرنسا وألمانيا من ذيول الأزمة.
•••
وأما الأمر الثانى الذى يشير إليه تطور العلاقات الدولية فى الفترة الراهنة، ضمن الحقيقة المزدوجة المشار إليها آنفا، فهو ما يتبدّى من العجز والاهتراء الذى يميز النظام الدولى على العموم. ومن الأمثلة الدالة هنا، العجز عن معالجة جراح مفتوحة أمام الناظر إليها من كل باب، كما هو الحال فى العراق وسوريا واليمن وليبيا وكذلك لبنان، إلى غير ذلك، كما فى «حوض النيل». ولا نذكر «أم الأزمات المستعصية»، أى القضية الفلسطينية التى أعْيت من يحاول الاقتراب من أى مدخل (معقول) بل و(واقعى)، ولا نقول «حقانى» لمأساة الشعب الفلسطينى، فى مقاومته البطولية منذ سبعين عاما ويزيد. وبدلا من العمل من أجل الحل، تجرى محاولات قد تؤدى إلى تعميق المشكلة الفلسطينية، هنا وهناك، حتى بين ظهرانى الوطن العربى الكبير، تحت «لافتات» مختلفة دون وجل..! هذه «جريمة العصر» كما قال البعض منا، وإن لم توجد لها أشباه ونظائر فى عالمنا وعصرنا، فإن أوجه شبه قائمة بين «المأساة الأم» ومآسٍ غيرها أصبحت عابرة للزمن، عبر عقود على الأقل، كما فى حالة «الصومال» الجريح.
ولننظر أيضا إلى بعض ما جرى مؤخرا بمناسبة الأحداث المصاحبة للانسحاب الأمريكى فى أغسطس 2021 من أفغانستان. وقل مثل ذلك عن الذى جرى، فى وقت سابق قريب، بمناسبة الغزو الأمريكى للعراق واحتلاله عام 2003، وما جرى من تدخلات القوى الغربية الكبرى، وبعض القوى العربية (الصغرى والمتوسطة) فى كل من سوريا وليبيا بعد أحداث 2011.
ولعل ذلك يكشف إلى حدّ بعيد الزيف (النسبي) لادعاءات الامتثال للمبادئ (الليبرالية) منذ أوائل وأوساط التسعينيات المنصرمة، حين تم تدخل «حلف الأطلنطى» فى حروب البلقان وخاصة فى «يوغوسلافيا السابقة» ــ البوسنة وصربيا وكوسوفو ــ تحت مسمّى «التدخل الإنسانى».. وما هى فى حقيقتها إلا تصرفات «انتقائية الطابع» يحكمها المنطق العارى للمصلحة بمعناها الضيق، للتحالف الغربى وأعضائه على اختلافهم.
•••
هو نظام دولى مهترئ إذن، إن صح التعبير. هذا النظام يسبح فى بيئة سياسية خانقة، ربما تعبر عن انعكاسات القلق الناجم عن تحولات عصيبة المحتوى، عصبية المظهر، حينما تشرف شمس قوة عظمى مهيمنة على الأفول، فتأبى إلا أن تغادر عالمها الذى حكمته زمنا، فإذا به ممزق شرّ ممزق وربما غير قادر على الحركة الذاتية. هذا إذن عالم يتركه الأمريكيون منقسما على نفسه، «سياسوى»، إن صحت العبارة، تتغلب النوازع السياسية الضيقة لأطراف منظومته المهلهلة على سلوكها العام وسياساتها الخارجية.
تبدو فى ضوء ذلك، سمة ثالثة تسم العالم ونظامه، سمة التمزق على وقع «السياسة» بمعناها الضيق، معرّفة بوصفها المصلحة الضيقة التى تعرّفها بدورها أنظمة سياسية قليلة الكفاءة: الولايات المتحدة الأمريكية نموذجا خلال عقدين بالذات 2000ــ2021: عشرون عاما بدأت بأفغانستان (والعراق) وانتهت أيضا بأفغانستان (والعراق) على وقع الانسحاب من «الشرق الأوسط» وغرب آسيا.
فإلى أين من هنا..؟ هل إلى «أوراسيا» (حيث روسيا) وإلى الشرق الأقصى (حيث الصين)؟
وهل هى الحرب..؟ حرب أمريكا القادمة لمحاولة التخلص، ربما، من المأزق الوجودى المقيم؟
ومع من ضد من؟ هل مع تايوان ضد الصين الأم، ومع كوريا الجنوبية ضد كوريا الشمالية.؟ وهل مع ألمانيا (غير الراغبة أصلا) ضد روسيا؟
فيالها من خيارات بائسة تربك المسار وتضيّع الرؤية الثاقبة للأولويات. بدلا من أولوية إنقاذ الكوكب من الدمار البيئى، وإنقاذ غالبية سكانه من ربقة الحرمان وخاصة فى القارات الثلاث المعروفة، آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ــ بدلا من ذلك، يتم التركيز على سياسة إبداء الاستعداد الردعى لحرب شاملة أو حروب جزئية، كلها عبثية. سياسة تشجع البعض ضد البعض، وتتبع سياسة (الأسد البريطاني) العجوز القديم: (فرّق تَسُد).
وبدلا من مدّ الأيدى معا لإنجاز تسويات تصالحية محقّة (حوض النيل نموذجا) أو لتضمّد جراح بلدان عريقة تهاوت غصبا (سوريا وليبيا والعراق نموذجا) أو ترد «بعض الحق» لأصحابه (فلسطين) ــ بدلا من ذلك كله، يعاد إنتاج وانتهاج السياسات نفسها التى أثبتت فشلها المقيم عبر الزمان. وإن بعض الامبراطوريات الراهنة، التى ورثت نهج التتار ومن إليهم، لتأبى إلا أن تذهب إلى (حافة الهاوية) مرة أخرى، وقد تطيح هذه المرة بالكون، كليا أو جزئيا، فى محاولات يائسة لإنقاذ نفسها ومن أجل أن تُبقِى على هيمنتها العالمية لأطول مدى زمنى ممكن.
إنها حرب الجميع ضد الجميع يريدونها لنا، فماذا نريد نحن..؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved