إعادة اختراع الراديو

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 17 سبتمبر 2022 - 8:49 م بتوقيت القاهرة

تزداد جاذبية البودكاست يوما بعد يوم، فهو يتماشى مع روح العصر، إذ يسهل إنتاج واستهلاك المحتوى من الملفات السمعية التى يتم بثها على الإنترنت وتعمل بشكل أساسى كراديو رقمى يشمل جميع موضوعات الحياة، رغم أن البعض قد يلجأ إلى الفيديو أيضا، لكننى هنا بصدد الحديث عن التدوين الصوتى فقط.
المتلقى حر أن يستمع إلى المحتوى الذى يختار فى أى وقت يحب، وهو يتنقل فى الزحام المرورى من مكان لآخر، وهو يقوم بتنظيف المنزل أو الطبخ إلى ما غير ذلك، فلا يضيع وقته. المهم أنه هو الذى يقرر بخلاف الميديا التقليدية التى تبث بشكل مركزى وفق جدول معين وتفرض عليه قيودا بسبب توجهاتها وسياساتها التحريرية أو تحدد له أجندة الموضوعات التى تراها أساسية بحسب حراس البوابات. لذا كان الولع الذى نشهده فى السنوات الأخيرة بهذه الوسيلة الجديدة للتسلية والإعلام والتثقيف، التى تعيد اختراع الراديو دون أن تقضى عليه، لكنها تستولى على جزء كبير من سوقه أو مستمعيه، كما تقتنص لنفسها جزءا من نصيب منصات الاستماع للموسيقى، فنحن بصدد نمط استخدام أو استهلاك يتغير، أصبحنا فيه إلى حد ما شركاء لصانع المحتوى على الأقل فى القرار والاختيار، هذا هو كل ما فى الأمر.
• • •
على عكس صيغ أخرى من المحتويات التى تستخدم النصوص والصور والفيديوهات، صيغة الأوديو للبودكاست احتفظت لنفسها بخصوصية الراديو وكونه وسيلة مصاحبة للشخص، تلازمه وهو يستحم ــ إذا أراد ــ وهو يقود سيارته أو مستلقٍ على الأريكة ويتناول الطعام. البعض يضع السماعات على أذنيه ويقرر أن يستأنس بصوت آخر يتحول مع الوقت وفرط المتابعة إلى صديق أو إلى أحد أفراد العائلة. التركيز على فكرة الحميمية يعتبر بعدا مهما للتجربة، خاصة فئة البودكاست المستقل الذى يقوم بإعداده أفراد وليس مؤسسات، لأن هناك العديد من الجهات التى قررت استخدام البودكاست لأغراض تعليمية أو لإعادة بث برامجها مثل الإذاعات التقليدية التى استفادت من التكنولوجيا لإعادة بث فقراتها وإتاحتها على مواقعها الإلكترونية للاستماع لها حين نريد، وقد تم تسجيلها فى استوديوهات مجهزة، هذا بخلاف الشخص المستقل الذى قرر الاستعانة بميكروفون وجهاز موبايل وإذا لزم الأمر برنامج بسيط خاص بعمل المونتاج ليطرح نفسه كبديل للإعلام التقليدى بكل ما يمثله من حسابات معقدة.
هو متحدث لبق منذ البداية أو ربما اكتسب المزيد من الفصاحة مع الممارسة، يكلمنا فى موضوعات تتماشى مع ميوله، وغالبا قد أعدها جيدا، إذا ما أراد النجاح. قد يروى لنا نصوصا وحكايات نشعر من خلالها أننا لسنا وحدنا المهتمين بمجال معين أو نمر بأزمة، وقد يلجأ إلى ضيوف ومعلقين آخرين فيأتى البودكاست فى صورة مقابلة أو زيارة، الأشكال تتعدد والغرض واحد: المشاركة. وعلى عكس الراديو لا نضع «البودكاستر» على قمة الهرم أو فى برج عالٍ مثل نجوم المذيعين، بل هو «واحد من الناس»، ما لاحظه الصحفيون الذين خاضوا التجربة ولمسوا الاختلاف والقرب من المتلقى مقارنة بالوسائط الاعتيادية.
يتحدث صانع البودكاست فى أذنى بشكل مباشر، خاصة إذا كنت أضع سماعات تفصلنى عن العالم الخارجى وتجعلنى أغوص معه فى عالمه. يكلمنى عن الموضة أو السياسة أو كرة القدم أو ثقافة البوب، وقد أجد عنده ما لا أجده عند سواه، خلال تسجيلات تتراوح مدتها غالبا بين خمس دقائق و45 دقيقة. لا أكون بحاجة لإجهاد عينى والحملقة لساعات فى شاشة الكمبيوتر، ولا تدقيق النظر فى الصور، فقط أنصت لما يقال وأتابعه بلا مبالاة أو بشغف خاصة إذا كان مصنوعا بشغف. كله حسب الطلب، فهو «راديو على كيفك»، يتناسب مع مزاجك فى لحظة الاستماع، وأنت من تختار «الكوكتيل» الذى تفضل، وتسجل اهتمامك بمجرد كبسة زر فتصلك المزيد من المواد المماثلة أو بقية حلقات سلسلة البودكاست.
• • •
يرجع الفضل فى هذه الحرية التى تميز البودكاست لتقنية الآر إس إس (RSSــreally simple syndication)، وتعنى بالعربية «وصلة سهلة حقا أو تلقيم مبسط جدا»، التى تستخدم لجمع وتصفح المعلومات والمدونات بسرعة ومن مصادر متعددة دون الحاجة لزيارة هذه المواقع كلها، وهى خدمة توصل لك آخر تحديثات المحتوى الذى قمت بالاشتراك به فور حدوثها، وعلى هذا النحو يمكنك متابعة حلقات البودكاست الجديدة لشخص أو الحلقات المسلسلة.. إلخ. وقد تطورت هذه التقنية كثيرا منذ ظهور الويب 2.0 فى بدايات الألفية الثانية، وهو مجموعة من التطبيقات ساهمت فى تغيير الشبكة العالمية «إنترنت»، وذلك بالسماح للمستخدمين بالتعبير عن أنفسهم واهتماماتهم وثقافاتهم بشكل أكبر وبالقدرة على التحكم فى قاعدة البيانات الخاصة بهم وبالتمتع بمزيد من التفاعلية. منذ ذلك الحين ظهر مصطلح «البودكاست» الذى يدمج كلمتين «آى بود» (مشغل وسائط محمول أنتجته شركة آبل) و«برودكاستينج» أو بث بالإنجليزية، وكان الصحفى البريطاني ــ بن هامرسلي ــ أول من استخدم مصطلح «بودكاست» فى إشارة للتدوين الصوتى، خلال مقال نشرته صحيفة «الجارديان» العريقة، عام 2004.
أخذت التقنيات فى التطور وكذا أنماط الاستهلاك وطرق استقبال المحتويات المختلفة، وفى العام 2014 كانت الطفرة مع بداية حلقات «serial»، البودكاست التشويقى الاستقصائى الذى حقق نجاحا كبيرا فى الولايات المتحدة الأمريكية، وفى هذا العام نفسه انتشر البودكاست فى المنطقة العربية وتوالت النجاحات ووصلت أوجها حول العالم فى 2018ــ2019. ربما سرعت أزمة الكوفيد والحجر الصحى من وتيرة الإقبال، إذ ظهرت معها مثلا محتويات مخصصة للأطفال، ولم يعد الافتتان بالبودكاست حكرا على شعب بعينه بل ازداد بشكل كبير ــ وفقا لآخر الدراسات ــ فى دول أمريكا اللاتينية التى تفوقت على الولايات الأمريكية، فلم يعد لها الصدارة كما فى السابق. وتنامت ظاهرة «البودكاست» أيضا فى الهند والشرق الأوسط والصين، ربما فى إطار بحث شعوب هذه المناطق عن بدائل لإعلام تقليدى لم يعد مرضيا ولرغبتهم فى كسر بعض المحظورات.
يتطور الوسيط أكثر وأكثر حتى صار الحديث عن نوع قادم من البودكاست يواكب الموقع الجغرافى، ويتوافق مع موقعك المحدد على الجى بى إس، فإذا كنت عالقا فى زحام أحد شوارع القاهرة قد يقترح عليك تسجيلا صوتيا يروى قصة المكان أو يضعك فى قلب قصة تشويقية حدثت بالفعل فى زمن آخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved