لغط السياسة وعوراتها

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: السبت 17 أكتوبر 2009 - 10:24 ص بتوقيت القاهرة

 لم نعد نلمس شفافية حقيقية إلا فى ساحات الملاعب، التى يعرض فيها كل شىء أمام الجمهور. ومن موقعه فى المدرجات أن يراقب أداء اللاعبين ومهارة المدرب وكفاءة طاقم الحكام. والجمهور لا يراقب فقط وإنما هو يحاكم هؤلاء جميعا فى نفس الوقت. ولأن الشفافية بهذه الدرجة فإن الرأى العام الرياضى أصبح له حضوره القوى ودوره الفاعل والحاسم.

بمعنى أنه أصبح يمثل ضغطا يصعب تجاهله فى القرار الرياضى. وقد رأينا كيف أن غضب الجمهور أدى إلى إقالة المدير الفنى لمنتخب الشباب ومعاونيه بعد خروج مصر من مونديال الشباب. وكيف أن جمهور نادى الزمالك أعرب عن سخطه على أحد نجوم الفريق ــ حازم إمام ــ واضطروه ذات مرة لأن يخرج من الملعب وقد قرر الاعتزال. كما رأينا أن ضغط الرأى العام فى نادى الزمالك كان أحد الأسباب التى دفعت مجلس الإدارة إلى إقالة مدرب الفريق.

وفيما فهمت فإن مدرب المنتخب الوطنى يواجه مشكلة الآن مع اللاعب المحترف فى ألمانيا محمد زيدان لأن مدير المنتخب قرر استبعاده من تشكيله بعدما احتاجه فى مباراة رواندا لكنه تجاهله ولم يتسجب له، ومن ثم اعتبر أنه وقع فى خطأ أخلاقى يستحق أن يعاقب بسببه. وبعدما تبين أن المنتخب بحاجة إليه، عقب إصابة أبوتريكة وعمرو زكى وتراجع لياقة ميدو، لاحظنا أن الجماهير بدأت فى ممارسة ضغوطها للعفو عن ميدو وضمه إلى المنتخب لسد الثغرة فى لاعبى الهجوم.

أرجو ألا تفهمنى خطأ، فتظن أننى بذكر هذه التفاصيل أصبحت خبيرا فى كرة القدم وحافظا لأسماء اللاعبين وحكاياتهم. لأننى ما خضت فى الموضوع وتعرفت على هذه الخلفيات إلا بعد أن تلقيت أكثر من «درس خصوصى» ممن أعرف من النقاد الرياضيين. وقبل هذا الدرس كنت أخلط بين حازم إمام وعادل إمام، ولم أكن أعرف الفرق بين محمد زيدان والأديب الدكتور يوسف زيدان. وكنت أظن أن ميدو لاعب الكرة هو ذاته ميدو صاحب محل البقالة الكبير فى مارينا. وبالكاد كنت أميز بين أبوتريكة وأبوتلات، القرية الساحلية المجاورة لمنطقة العجمى بالإسكندرية.

لغط السياسة هو الذى جرنا إلى المقارنة مع الذى يحدث فى عالم الملاعب. إذ كنت قاعدا فى مجلس قال فيه أحدهم غاضبا إنه لو كان فى البلد احترام للرأى العام لما أعيد تعيين الوزير السابق الذى كان رمزا للفساد والإفساد فى منصب رفيع، رغم أن القاصى والدانى يعلمان أن مكانه الطبيعى وراء القضبان. وقال آخر إن عملية التوريث التى يجرى إخراجها الآن تعد نموذجا آخر لإهانة الرأى العام والازدراء به.

فقال ثالث إن ذلك لا يمكن أن يحدث فى أى فريق لكرة القدم، لأن اختيار اللاعبين فيه يتم بصرامة تضع فى الاعتبار كفاءة اللاعب. التى لا تحددها الإدارة أو المدرب، وإنما تثبتها الممارسة المكشوفة أمام الجمهور، الذى أصبح «الحكم» فى منح اللاعبين شهادات التقدير وعلامات التفوق.

حينئذ قلت إن الفرق بين لعبة السياسة ومباريات كرة القدم فى العالم العربى يكمن فى أمرين، أولهما الشفافية التى هى مغيبة فى الأولى ومتوافرة بالكامل فى الثانية، وثانيهما فى الموضوع، لأن إغراءات ممارسة السلطة فى مصر لا تقارن بالنجومية فى عالم الرياضة. إذ بالأولى ينخرط المرء فى سلك الآلهة، فى حين أن غاية ما يمكن أن يبلغه النجم فى الثانية أن يرفع على الأعناق فى الشارع. لذلك فإن السياسى يمكن أن يفرض على الناس الأمر الذى يستحيل حدوثه فى الملاعب.

ولا عجب والأمر كذلك أن تحتل الكفاءة واللياقة مكانا متقدما للغاية فى عالم الرياضة، على العكس تماما من الحاصل فى السياسة التى لم يعد البقاء فيها والتقدم فى مدارجها يتطلب شيئا من هذه أو تلك، لذلك فربما كان لدينا بعض أمل الإنجاز فى دنيا الرياضة، فى حين صرنا نفقد الأمل فى عالم السياسة. يؤيد ذلك أنه فى الرياضة يظل المرء نجما حتى آخر «هدف» فى حين أننا نسمع فى السياسة من يصر على احتكار الصدارة حتى آخر نَفَس!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved