من مصر إلى تونس: ليس الشعار الإسلامى برنامجًا لحكم الغد

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 17 أكتوبر 2012 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

غادرت حركات الإسلام السياسى حذرها التاريخى إزاء تهمة التفرد باحتكار الدين تمهيدا لاحتكار المرجعية الدنيوية وتتبدى الآن متعجلة إلى حد الهوس فى سعيها للسيطرة على مواقع الحكم، حيث انفتح أمامها الباب للمشاركة فى الحياة السياسية، بأسمائها الصريحة مباشرة، وأبرزها تنظيم الإخوان المسلمين وبعض الحركات السلفية فى كل من مصر وتونس، والى حد ما فى المغرب والأردن..

 

ولا تخفى هذه الجماعات أن السلطة مكافأة مستحقة لها لتعويضها صنوف الاضطهاد التى تعرضت لها عبر عقود، غافلة أو متناسية أن أنظمة الطغيان قد اضطهدت الشعوب التى حكمتها جميعا، بمختلف تنظيماتها وتشكيلاتها السياسية، وطنية كانت أو قومية أو تقدمية، وصولا إلى الجمعيات الأهلية.

 

ومع أن عمر تنظيم الإخوان فى مصر يتجاوز الثمانين عاما فإن ثورة الميدان قد كشفت تعجلهم إلى تسلم السلطة، بل إلى محاولة احتكارها، بالرغم من افتقارهم إلى برنامج عصرى وجدى للحكم.

 

لا يكفى الشعار الإسلامى برنامجا، ولم يكن القرآن الكريم فى أى يوم، ولن يكون، برنامجا سياسيا لحكم ديمقراطى فى مجتمع مدنى. هو أسمى من ذلك بكثير. ولا تفيد الشعارات أو حتى النظريات المركبة أو الشعارات الإسلامية المستمدة من بعض الآيات الكريمة وبعض الأحاديث فى صياغة برنامج لسلطة زمنية. قد تصلح كقواعد لتحقيق المساواة والعدالة بين الناس وتمكينهم من حقوقهم الطبيعية فى أوطانهم ودولهم، ولكنها لم تكن تتحدث عن «السلطة» وأصول الحكم فتحدد قواعدها.

 

ثم إن المسلمين، عربا أو من قوميات أخرى، لم يعرفوا بعد الخلفاء الراشدين حكما صادرا عن إرادة شعبية وله برنامجه أو خطة عمله المحددة، بل لقد تحول الحكم وراثيا وصار الخليفة حاكما مطلقا، وصار المعارضون «خونة» يطاردون فيسجنون أو يعدمون وتستأصل جذورهم، بوصفهم أعداء الأسرة الحاكمة التى نصبت نفسها المرجع الدينى والزمنى، لا راد لقرارها ولو مخطئا والسيف لمن اعترض.

 

●●●

 

وما يثير الاستغراب أن التنظيمات الإسلامية التى أوصلتها المقادير فى غياب الآخرين إلى السلطة تتصرف وكأنها «أسر حاكمة»... لكأنما إسقاط حكم الطغيان، مبارك فى مصر وبن على فى تونس، يبرر لها أن تتصرف وكأنها «الوريث الشرعى الوحيد» لكل منهما.

 

وليس من شك فى أن تنظيمات الإخوان المسلمين فى كل من مصر وتونس تضم مناضلين وكفاءات محترمة فى مختلف المجالات العلمية والعملية، لكن «الغالبية العظمى» من المصريين والتونسيين الذين لا يرون رأيهم تضم آلاف آلاف المناضلين والكفاءات الذين قدموا جهدهم لأوطانهم، وربما لقوا من العنت والاضطهاد والسجن فى عهود الطغيان مثل ما لقى الإخوان وربما أكثر.

 

ثم إن اعتقال المناضلين وسجنهم لسنوات طويلة لا يكفى وحده لتأكيد جدارتهم بأن يكونوا حكاما بغير مشروع محدد أو برنامج واضح.. علما بأن هذه «الميزة» تكاد تتمتع بها نخبة عريضة من أبناء الشعب المصرى (وسائر الشعوب العربية، ولله الحمد..).

 

إن انعدام الحياة السياسية فى عهود الطغيان قد أضر بحاضر البلاد ومستقبلها وحرمها من قدرات جيلين أو ثلاثة من أبنائها المؤهلين، بل كادت تدمر المجتمع المدنى فشردت نخبه بين المعتقلات والمنافى ودفعت بأعداد غفيرة منهم إلى اليأس من إمكان التغيير فأنكفأت عن العمل السياسى، حتى كاد شعار «لا مؤاخذه أنا ما ليش فى السياسة» يصير طوق النجاة من الاعتقال أو السجن أو تسخير قائله للوشاية بمن «لهم فى السياسة».

 

فى أى حال فالمؤكد أنه لا الشعب المصرى ولا الشعب التونسى أعطى الإخوان تفويضا مطلقا بأن يحكموا ببرنامجهم، هذا إذا ما افترضنا ان ما أنجزوه على صعيد الفكر السياسى يمكن اعتباره برنامجا صالحا للحكم فى القرن الحادى والعشرين وفى ظروف صعبة يعيشها الشعبان، اقتصاديا واجتماعيا، تمكن للهيمنة الأجنبية أن تدخل من باب الأزمات، سياسية ومعيشية، كما تمكن للعدو الإسرائيلى ان يستمر فى محاولاته لتقييد القرار الوطنى المصرى بل العربى عموما، وفى كل دول هذه القارة العربية فسيحة الأرجاء.

 

●●●

 

وفى نموذج مصر، على سبيل المثال، فان عُشر الناخبين قد أعطوا أصواتهم للدكتور محمد مرسى فى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية... أما فى الجولة الثانية ونتيجة لظروف معروفة أبرزها منع عهد الطغيان من التمدد ــ ديمقراطيا ــ عبر أحد أركانه، فقد أعطوه ربع أصواتهم، ولم يرفعوه إلى سدة الخلافة.

 

لقد تم التغيير بتحالف عريض فرضته الضرورة ولمنع مرشح النظام من الوصول وليس بأصوات الإخوان وحدهم.

 

فى البداية، كان نوع من «التواطؤ» مع قيادة القوات المسلحة...

 

وقد أنتج هذا التواطؤ تعطيل إعداد الدستور والاكتفاء بتعديل دستورى سمح للإخوان بان يتصدروا الصفوف فى انتخابات المجلس النيابى ومجلس الشورى وإبعاد «الآخرين» من القوى الوطنية لان الإخوان كانوا الأكثر جهوزية من بين سائر القوى السياسية.

 

كذلك أنتج هذا التعطيل انتخابات رئاسية متعجلة، وبمن حضر.

 

لم يكن من الحكمة أن يستعيد الرئيس المنتخب بأصوات فئات عديدة الخصومة مع جمال عبدالناصر بغير مبرر، وعبر جملة معترضة: «الستينيات وما أدراك ما الستينيات»...

 

ثم إن الرئيس قد اندفع متحمسا لتوشيح قيادات المجلس العسكرى بأرفع الأوسمة فى مصر تمهيدا لأن يحيلهم إلى التقاعد تاركا أمام الثأريين الفرصة لأن يطالبوا بمحاكمتهم...

 

ولقد توالت المفاجآت: اتخاذ قرارات ثم التراجع عنها، بعد محاولة لتبرير صدورها ثم إلغائها وقبل أن يجف حبرها فتم تعيين نواب للرئيس ثم قيل إنهم مستشارون أو مساعدون، وتم تشكيل الحكومة من دون استشارات وكأنها مهمة سرية، ومن بعد جاء القرار المتعجل بإقالة النائب العام وتعيينه سفيرا فى الفاتيكان، ثم التراجع عنه بعد الرفض الجماعى الذى واجه به القضاة هذا «الاعتداء على حصانة القضاء».

 

إنه حكم بلا برنامج، يمارس السلطة فى غياب المظلة الدستورية.

 

والإجراءات المتتالية تعكس رغبة فى التفرد ومحاولة للسيطرة على مفاصل الحكم جميعا فى أقصر وقت ممكن وقبل أن يتكامل بناء المؤسسات الدستورية التى تضع حدودا لصلاحيات الرئيس (حتى لو كان منتخبا من الشعب فى نظام رئاسى).

 

كأن بين هواجس التنظيم الانتقام من الماضى عن طريق مصادرة الحاضر والمستقبل.

 

●●●

 

يمكن إبداء الملاحظات ذاتها حول الحكم ( شبه الإسلامى) فى تونس، ولقد جاءت تصريحات القائد الإخوانى التونسى راشد الغنوشى فى الأيام القليلة الماضية، والتى تم تسريبها بقصد مقصود إلى الإعلام، لتؤكد ان الديمقراطية فكرة طارئة على فكر الإخوان، وأنهم وقد صاروا هم السلطة لا يرغبون كثيرا فى أن يكون لهم شركاء، لا من «التقدميين» ولا حتى من بين «السلفيين».

 

بل إن كثيرا من التصرفات تدل على أن الإخوان يتعمدون إنكار تاريخ القوى المعارضة الأخرى التى سبقتهم فى التصدى لأنظمة الطغيان، بينما كانوا هم يترددون على بلاطها ويمنحونها شيئا من التزكية أو التبرئة وهى تندفع فى طريق الخطأ أو الخطيئة.. ولا يمكن فهم تكريم الرئيس الراحل أنور السادات فى ذكرى حرب أكتوبر إلا كفعل انتقامى من جمال عبدالناصر، لا سيما إذا ما تذكرنا أن نظام مبارك الذى خلعه الميدان هو الامتداد «الشرعى» ــ سياسيا ــ لنظام السادات.

 

أما الروح الثأرية تجاه الصحافة وأعلام الصحافيين سواء فى نقابة الصحافة أو فى مختلف وسائل الإعلام فهى ظاهرة إلى حد الفضيحة، سواء فى مصر أم فى تونس.

 

والسؤال هو: متى ينتبه الناس إلى أن عهد ما بعد الميدان قد بدأ متخففا من أثقال روح الانتقام من الماضى، ليلتفت إلى المستقبل فيمد اليد إلى أهله ليباشروا البناء معا؟!

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved