روسيا ذات الوجهين

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الأحد 18 أكتوبر 2015 - 4:25 م بتوقيت القاهرة

ثمة رسالة فى احتفال موسكو بحلول السنة الهجرية وحديث وزير الخارجية الروسى فى المناسبة عن انتماء روسيا إلى العالم الإسلامى. وهو الاحتفال الذى أقيم بعد ثلاثة أسابيع من افتتاح مسجد موسكو الكبير والوحيد الذى بناه تاجر تترى عام ١٩٠٤، بعدما تم تجديده وتوسيعه ليصبح أكبر مسجد فى أوروبا. ولفت الانتباه أن حفل الافتتاح حضره الرئيس بوتين والرئيسان التركى والفلسطينى إضافة إلى ممثل للأزهر. ولا أحسب أنها مصادفة أن يحدث ذلك بعد التدخل العسكرى الروسى فى سوريا ومحاولة موسكو إقناع مسلمى العالم العربى أنها تقف إلى جانبهم ضد الإرهاب الذى يهدد المنطقة، فضلا عن السعى لطمأنة مسلمى الاتحاد الروسى (٢٥ مليونا) بأن قرار الرئيس بوتين ليس موجها ضد المسلمين فى المشرق ولكنه موجه ضد الإرهابيين الذين يهددون دوله المسلمة.

تفوق بوتين على نابليون بونابرت، حين جاء إلى مصر غازيا فى عام ١٧٩٨م. ذلك أن الأخير أصدر منشورا وجهه إلى علماء المسلمين ومشايخهم ذكر فيه أن «الفرنساوية مسلمون مخلصون، والدليل على ذلك أنهم نزلوا فى روما الكبرى وخربوا فيها كرسى البابا، الذى كان دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام».

بوتين كان أكثر وعيا. ذلك أنه جاء مباركا من الكنيسة الأرثوذكسية ومؤيدا من قبل مفتى المسلمين فى روسيا. ذلك أن البطريرك كيريل الأول رأس الكنيسة فى موسكو اعتبر أن القوات الروسية فى سوريا تخوض «حربا مقدسة». وهو من وصف فوز الرئيس بوتين بفترة رئاسية ثالثة بأنه «معجزة الرب» وقال عنه إنه «إصلاحى أرسلته العناية الإلهية لإنقاذ البلاد». أما المفتى فقد أيد التدخل العسكرى الروسى ووصفه بأنه حملة ضد الإرهاب الأصولى.

طوال نصف القرن الأخير ظلت الحسابات السياسية حاكمة للعلاقة بين موسكو والعالم العربى ومصر فى مقدمة دوله. وحين كانت العلاقة بين القاهرة وموسكو فى أوج قوتها خلال سنوات الحرب الباردة، فإن أغلب الوفود المصرية التى زارت الاتحاد السوفييتى آنذاك كانت تبحث فى موسكو أمور التسليح بوجه أخص. لذلك حين وجهت الدعوة فى عام ١٩٧٠ إلى شيخ الأزهر الدكتور محمد الفحام لزيارة الاتحاد السوفييتى، وكنت ضمن الوفد المرافق له، فإن ظرفاء المصريين أشاعوا أنه ذهب لعقد صفقة لشراء مدافع لشهر رمضان. إذ لم يخطر على بال أحد أن تتناول الزيارة دورا تخرج عن ذلك النطاق.

اختلف الأمر بعد انهيار الاتحاد السوفييتى فى بداية التسعينيات، فبرز دور الدين فى المجال العام. إذ ذكر فيلم أصدره المكتب الإعلامى للكنيسة الأرثوذوكسية أن «الشعب عاد إلى جذوره المسيحية وقيمه الروحية، وملأت الكنيسة الفراغ الأخلاقى الذى خلفه غياب القيم مع انهيار الاتحاد السوفييتى». وحين احتلت روسيا شبه جزيرة القرم أعلن بوتين أن ضمها له «دلالة مقدسة». لأن الأمير فلاديمير الذى اعتنقت روسيا المسيحية على يديه فى نهاية القرن العاشر الميلادى تم تعميده فى القرم.

فى تلك المرحلة انضمت روسيا إلى عضوية منظمة المؤتمر الإسلامى (عام ٢٠٠٣) ودبت الحيوية بصورة نسبية فى محيط المسلمين الذين يمثلون (14٪ من السكان ويشكلون أغلبية فى 8 من بين 21 جمهورية داخلة فى الاتحاد الروسى. وكانت مضاعفة أعداد المساجد أبرز علامات تلك الجدية. وفى تصريح للمفتى طلعت تاج الدين رئيس الإدارة الدينية المركزية أن عدد المساجد التابعة للإدارة كان 94 مسجدا فى عام ١٩٨٩، ولكنه ارتفع إلى ألفى مسجد بعد ذلك (لم يذكر تاريخ الإحصاء الأخير).

صحيح أن الإسلام فى روسيا يعد الديانة الثانية، إلا أن الثابت أنه دخل إلى البلاد ووصل إلى حوض نهر الفولجا رسميا قبل قرن من إعلان الأرثوذكسية دينا لروسيا. وهو ما سجله تقرير لوكالة نوفوستى الروسية. ومن الثابت أن المغول فى القرن الثالث عشر سيطروا على أجزاء واسعة من روسيا وسيبيريا وأجبروا دوقية موسكو على دفع الجزية إلى إمارة القرم.

الشاهد أن علاقة روسيا بالإسلام والمسلمين ليست جديدة، وإنما هى ضاربة القدم فى التاريخ. وباستثناء المرحلة السوفييتية التى كانت معادية للدين عموما، فإن روسيا القيصرية لم تشترك فى صراع له صبغته الدينية مع العالم الإسلامى. وحين دخلت فى عراك مع الدولة العثمانية أو مع الامبراطورية الفارسية فإن ذلك كان مرجعه التنافس حول التوسع والوصول إلى المياه الدافئة والأراضى الخصبة.

مع ذلك ظلت الكنيسة الأرثوذكسية فى القرن الثامن عشر توفر الغطاء الأيديولوجى لحروب القياصرة، واعتبرت أن لروسيا دورا فى حماية الأرثوذكس العثمانيين فى الشام والأناضول والبلقان.

حين تلوح روسيا بورقة الدين وتخاطبنا بلسانين مسيحى وإسلامى، فإنها تقدم على مغامرة غير محسوبة. إذ إنها بتدخلها فى سوريا تدافع عن مصالحها لا ريب، وفى الوقت ذاته فإنها تحاول استعادة دورها فى زعامة الكنيسة المشرقية، من خلال حماية الأرثوذكس والأقليات هناك. وحين تتحالف مع إيران فى سوريا وتتطلع إلى توسيع عملياتها العسكرية فى العراق فإنها بذلك تستنفر المشاعر السنية الصوفية بين مسلمى القوقاز، الأمر الذى قد تكون له تداعياته الداخلية التى لا تؤمن عواقبها. وقد ظهرت بعض تلك الأصداء فى حملات اعتقال بعض الشيشانيين التى لجأت إليها السلطات فى موسكو خلال الأسبوع الماضى، الذين اتهموا بالتحضير لعمليات إرهابية فى العاصمة. فى ذات الوقت فإن الأصداء تظل مفتوحة على جميع الاحتمالات فى العالم السنى وفى تركيا بوجه أخص، الأمر الذى يعيد إلى الأذهان ذكريات التدخل السوفييتى فى أفغانستان عام ١٩٧٩.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved