نحو ثقافة عربية جديدة

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 17 أكتوبر 2018 - 11:10 م بتوقيت القاهرة

مثلما يعيش الوطن العربى أزمات مفجعة فى السياسة والاقتصاد والأمن فإن أهم وأقوى عناصر توحيده القومى، وهى الثقافة العربية الجامعة، تواجه، هى الأخرى، أزمتها. والواقع أن تلك الأزمة قد بدأت ملامحها فى القرن التاسع عشر عندما حكمتها ثلاثة اتجاهات: السلفية المنغلقة على الذات، أو الشعور بالدونية أمام ثقافة أوروبا وبالتالى المناداة بالانصهار فيها بصورة كلية وبلا ضوابط، أو الوسطية التلفيقية الحائرة.
والواقع أنه آن الأوان لتخطى كل ذلك والانتقال إلى ثقافة جديدة تنطلق من أصول أربعة هى التراث والواقع العربى الراهن والواقع العالمى وحاجات المستقبل العربى، فما هى المداخل الرئيسية المطلوبة لتحقيق ذلك الانتقال؟
أولا: وفى القمة، هناك حاجة لمراجعة ونقد وإعادة تركيب وتجاوز تراثنا العربى. ذلك أننا فى الواقع نعيش ذلك التراث فى حياتنا الحاضرة، وبالتالى فإن تغيير الحاضر لن يتم إلا إذا صاحبته تلك المراجعة.
فى قلب التراث، وبالتالى فى قلب ثقافتنا الحالية، يقبع موضوعان خطيران هما الفقه الإسلامى من جهة وما يعرف بعلوم الحديث النبوى من جهة أخرى.
أما التراث الفقهى فهو نتاج اجتهادات بشرية، ارتبط قسم كبير منها بحاجات فترات تاريخية سابقة واعتمد على ما وصلت إليه علوم تلك العصور القديمة، وأصبح بحاجة إلى أن يجدد جذريا ليلبى حاجات عصرنا الذى نعيش ويعتمد على ما وصلت إليه علوم عصرنا.
أما حقل الأحاديث النبوية فقد بينت الأبحاث والدراسات الكثيرة إشكالات تتعلق بمنهجية جمعه وتدوينه وبثغرات الدس والإضافات، وباستعماله فى الصراعات السياسية والمذهبية وإملاءات سلطات الحكم لخدمة تسلطها وإغراءات المال والوجاهة.
أهمية تنقيح التراثين تكمن فى نفوذهما الكبير فى تكوين العادات والسلوكيات والقناعات التى تمارسها وتؤمن بها أعداد هائلة من العرب والمسلمين، وهى سلوكيات وقناعات بالغة التخلف والتضاد مع حاجات العصر الذى يعيشه العرب.
ولعل الممارسات العنيفة والبربرية التى تقوم بها الجماعات الجهادية التكفيرية فى طول وعرض بلاد العرب، والتى تعتمد فى تبريرها على أجزاء من ذلك التراث، تكفى لإقناع الجميع بالحاجة الملحة لإجراء تلك المراجعة بصورة شاملة وجذرية تعيد للإسلام ألقة كمكون روحى وأخلاقى يغنى الثقافة العربية ويسمو بالجوانب الإنسانية فيها من جهة وتصحيح الكثير من المفاهيم الخاطئة بشأن حقوق المرأة وكرامتها ومساواتها وبشأن الممارسة الديمقراطية فى الحياة السياسية العربية.
ثانيا: إصلاح وتجديد حقل التربية والتعليم. لا يمكن الحديث عن ثقافة جديدة ذاتية إذا لم نعد الإنسان العربى الذى سيقبلها ويمارسها فى واقعة الفردى والمجتمعى.
من هنا الحاجة لأن تجعل العملية التعليمية العربية أولويتها القصوى بناء ذهنية فكرية قادرة على ممارسة التحليل والنقد والتركيب والتجاوز والاستقلالية والتعلم الذاتى المستمر، متشبعة بقيم أخلاقية وإنسانية، مقاومة للسلوك الأنانى المنغلق، ومتمكنة من رفض الجوانب السلبية الكثيرة فى الثقافة العولمية الحالية المرتبطة بالنظام الرأسمالى النيوليبرالى البالغ التوحش.
إن بناء هكذا ذهنية سيحتاج إلى توفر أمرين: أولهما تهيئة معلم ممتهن ومثقف يؤمن بضرورة ذلك التغيير، وثانيهما بيئة مدرسية تمارس الديموقراطية فى الصف ليتعلم الطلبة منهجية الحوار والتسامح مع الآخر والاستقلالية فى الفكر.
ثالثا: حل إشكالية التعامل مع ثقافة الآخر، وعلى الأخص ثقافة الغرب المهيمنة على مسرح العالم.
إن التعامل مع هذا الموضوع من خلال مشاعر العجز والخوف والدونية كان ولا يزال هو السمة التى تطبع العلاقة مع الغرب. وذلك النوع من التعامل المرضى لن يتوقف إلا إذا جرت مراجعة تحليلية نقدية لموضوع الحداثة الغربية برمتها.
عند ذاك ستنكشف أسطورة المركزية الثقافة الغربية المتعالية على الآخرين من خلال إبراز العلل الكثيرة التى رافقت الحداثة الغربية عبر مسيرتها والتى بدأت عناصر كثيرة فى الغرب نفسه تكتشفها وتدعوا إلى عالم ما بعد الحداثة، بل عالم ما بعد بعد الحداثة.
عند ذلك ستتفاعل الثقافة العربية الجديدة بندية وإبداع وتعاون مع ثقافة الغرب لإنتاج ثقافة إنسانية مشتركة تبعد عالمنا عن الجحيم الظالم الذى يعيشه، خصوصا فى مواضيع من مثل السياسة والاقتصاد والقيم والبيئة.
رابعا: ربط الموضوع الثقافى كجزء من مكونات المشروع النهضوى العربى القائم على متطلبات ضرورة الوحدة العربية، أمة ووطنا، والاستقلال الوطنى والقومى فى مواجهة المشروع الصهيونى وتدخلات قوى الاستعمار، والديمقراطية فى مواجهة الاستبداد، والعدالة الاجتماعية فى مواجهة التمركز الاقتصادى فى يد أقلية دون وجه حق، والتجديد الحضارى الذى سيكون رأس حربته مشروع بناء الثقافة العربية الجديدة التى نتحدث عنها.
بدون أيديولوجية نهضوية شاملة تحيط بالمشروع الثقافى ستكون الثقافة الجديدة فى خطر التزييف والنكوص.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved