رسالة إلى نبيل العربى

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الجمعة 18 نوفمبر 2011 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

مازالت الأزمة السورية تراوح مكانها ومازالت الدماء تسيل والأرواح تزهق والممتلكات تحرق. تدخلت دول عربية وغير عربية. تدخل بعضها لإثارة مزيد من نيران الانتقام المتبادل بين الشعب السورى والنظام الحاكم. وتدخل بعض آخر للتهدئة وكسب الوقت. ولكن قليلة كانت الدول أو الجهات التى بذلت جهودا حقيقية للتوسط. وفى ظنى، على كل حال، أن الوساطة ما كانت لتجدى فى المراحل المبكرة من الثورة حين كان النظام متيقنا من سطوته وجبروته والشعب مزهوا بإنجازات ثورته وصداها فى العالم.

 

لا حاجة بنا للتذكير بأن سوريا تختلف، اختلاف كل دولة عربية، عن الدول الأخرى، وإن كانت درجة اختلاف سوريا أكبر. فى الطبيعة السكانية تختلف ربما أكثر من العراق ولبنان. وفى الطبيعة الجغرافية، وبالذات فى الموقع، تتميز بخصوصية لا تتوافر لغيرها من دول الشرق الأوسط عربية كانت أم أعجمية. ولا جدال فى أن قدرة النظام الحاكم فى سوريا على المناورة، وكفاءته فى تجاوز المآزق، وخبرته فى التعامل مع النخب السياسية الحاكمة وغير الحاكمة فى دول الجوار لا تجاريها خبرة أخرى. ولا جدال أيضا فى أن إمكانات النظام التخريبية، فى كل مرة اضطرته الظروف لاستخدامها، رهيبة. بمعنى أن هذا النظام تتوافر له فرص عديدة تساعده على مقاومة الضغوط الخارجية، بما يعنى فى الوقت نفسه تضحيات أكثر تنتظر الشعب الثائر.

 

على هذا الجانب، جانب الشعب الثائر، أعرف جيدا أنه تتوافر لديه طاقة هائلة على تحمل التضحيات، ورغبة أكيدة فى تصعيد ثورته إلى أن يحقق مطالبه. أعرف أنه لن يهدأ إلا إذا تأكدت الضمانات، دولية كانت أم إقليمية، بأن مطالبه ستتحقق. لا أرى مبالغة زائدة فيما تنقله وكالات الأنباء والفضائيات عن حجم تضحيات هذا الشعب العظيم، وأتفق مع القائلين بأنه لو كان لدى النظام الحاكم فى سوريا حقائق أخرى عن الوضع الراهن غير ما تذيعها الفضائيات لسمح لممثلى الإعلام الدولى ومنظمات حقوق الإنسان بزيارة المدن التى تتعرض لقصف الأسلحة الثقيلة، ولا أشك فيما يقال عن دور «الشبيحة» فى إرهاب المدنيين والانتقام منهم، ولا فيما يقال عن ممارسات التعذيب التى تقوم بها قوى الأمن، فالتجارب التى خاضها الليبيون ويخوضها المصريون واليمنيون تجعلنا لا نشك كثيرا فى الروايات البائسة والمفزعة أحيانا الصادرة عن سوريا.

 

...

 

لا أريد أن أضيف إلى حال التشاؤم السائدة فى العالم العربى، والشرق الأوسط عموما، ولكن يجب الاعتراف بأن الصورة تزداد قتامة يوما بعد يوم، بخاصة الصورة التى يمكن أن يتخيلها من اقترب بشدة من دهاليز صنع السياسات فى العواصم العربية، وتابع تاريخ الصراعات العربية ـــــ العربية، ودرس العقل الاستبدادى المهيمن فى أغلب الدول العربية. الصورة تزداد قتامة لاعتبارات أكرر هنا بعضا منها مثل ما بات واضحا عن تدهور العلاقة بين الشعب السورى من جهة وأعضاء ومؤسسات النظام الحاكم من جهة أخرى إلى الحد الذى قد يحول ضد فتح حوار جاد وهادئ بين الطرفين، ومثل ما نعرفه ونشاهده يوميا عن  الزيادة المطردة فى قدرة النظام السورى على تصعيد العنف ضد الثوار.

 

أضيف اعتبارات أخرى بدأت تطل على الأزمة مثيرة مخاوف هائلة. أرى جهات فى الغرب وفى الأقليم جاهزة للتدخل بغطاء عربى حقيقى أو مصطنع، أو حتى بدون غطاء إطلاقا، وهو التدخل الذى يمكن أن يتسبب فى كارثة نصيبنا منها فى مصر لن يقل عن نصيب لبنان والعراق. أرى كذلك، الفرصة تزداد تألقا أمام كل من إيران وإسرائيل لتحقيق مكاسب سريعة بانتهاز حالة الفوضى السائدة فى المنطقة، وأرى تكالبا دوليا لاستعادة الإقليم كله أو بعضه ضمن استراتيجية جديدة للغرب، مستفيدا من استعداد متزايد من جانب دول نفطية لتمويل «مستقبل إقليمى جديد»، غير معروفة ملامحه أو تفاصيله لها أو لنا بالدقة الكافية والوضوح اللازم.

 

...

 

أرى أيضا، جامعة الدول العربية، وقد استدرجت خطوة بعد خطوة، إلى ولوج تجربة لا عهد لها بها. ولا سابقة فى تاريخها تستند عليها، ولا طاقة بشرية جاهزة لإدارة تدخل على مستوى يجرى الحديث عنه واتخاذ قرارات إقليمية لتنفيذه. أراها من ناحية وقد ظهرت فجأة وفى بعض تصرفاتها تلعب دور جامعة للشعوب العربية، وهو إنجاز طالما تمنته الشعوب وتبناه أول أمين عام للجامعة ودفع ثمن التمنى غاليا. أرى الجامعة فى الوقت نفسه مستنفرة إلى حدود قصوى وظهرها يكاد يكون مكشوفا. إن مصر، الدولة المساندة للجامعة منذ نشأتها بحكم موقعها وتاريخها وبحكم الدور المفترض فى السياسة الخارجية المصرية، لم تعد مساندة وتبدو غير مستعدة لحماية ظهر الجامعة، أو لعل المسئولين عن صنع سياستها الخارجية حكموا بأن يجعلوا منها «دولة فى حال توقف»، فأساءوا إلى مكانتها، وأضافوا مشكلة إلى مشكلاتها، وتركوا الجامعة لريح عاتية لم تمر بمثلها على امتداد تاريخها، وفى النهاية وصموا ثورتها بما ليس فيها.

 

...

 

من هنا، ومن منبر سبق أن استخدمه نبيل العربى، قبل أن تلقى على كاهله أمانة الجامعة العربية، أدعوه إلى تجاوز الشكليات المؤسسية، وأن يسمح للجامعة بأن تأخذ نفسا عميقا لتتروى مؤسساتها وقياداتها والقوى الدولية الإقليمية الضاغطة عليها، فلا تنجرف جميعها إلى هاوية لا نعرف كنهها وما ينتظرنا فيها. أقترح أن يقوم الأمين العام  بدعوة عدد من الشخصيات العربية المعروفة بطول خبرتها واتزانها وحسن تقديرها وتاريخها اللاحزبى، لتتكون منهم لجنة تجتمع فى مقر الأمانة العامة وتنتقل منها إلى دمشق ومن هناك إلى عاصمة أخرى وثالثة ورابعة، تلتقى بالمسئولين السوريين وبقادة المعارضة السورية فى الداخل والخارج، وتتكلم وتشرح وتفهم وتنصح.

 

أنتظر أن تمنح الجامعة العربية هذه اللجنة مهلة زمنية معقولة لتقديم تقرير عن مساعيها لوقف نزيف الدم وحل مؤسسات التعذيب والقصف والعنف والمطاردة وإخلاء الشوارع من الشبيحة وأمثالهم، والحصول من النظام الحاكم على التزام بصيغة تضمن انتقال السلطة سلميا خلال أسابيع معدودة. عندئذ يحق للأمين العام أن يدعو لحوار وطنى على أساس قواعد عامة أرستها اللجنة وإشراف دولى وإقليمى وتصور واضح للمرحلة انتقالية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved