التخطيط بين التغيير والتسيير

محمد محمود الإمام
محمد محمود الإمام

آخر تحديث: الإثنين 17 نوفمبر 2014 - 8:10 ص بتوقيت القاهرة

أواصل ما بدأته فى 13 أكتوبر الماضى بالحديث عن دروس الخطة القومية الأولى 60/61-64/65، وتابعته فى 27 منه ببيان كيف أدى تقاعس القطاع الخاص عن الإسهام فى الفرص التى استحدثتها الخطة إلى إدراك أهمية تحمل القطاع العام عبئا أكبر مما كان مقدرا، من أجل إنشاء مجتمع الكفاية والعدل، الذى ينمى الإنتاج ويكفل فى نفس الوقت عدالة التوزيع. وقد أفصح هذا التطور عن ثلاثة أمور:

الأمر الأول أنه كشف عن أهمية التمييز بين نوعين من التخطيط: «التخطيط الوظيفى» الذى يوجه مسار التنمية فى بنيات اقتصادية قادرة على مواصلة النمو معتمدة على قدراتها الذاتية، و«التخطيط الهيكلى» الذى يتدارك القصور فى البنيان الاقتصادى المتسبب فى تواضع القدرات الإنتاجية للمجتمع وفى تشويه آليات توزيع عائداته. وهذا الأخير يقع ضمن المسئوليات الأولى لقيادة سياسية أمسكت بزمام الأمور عقب ثورة على نظام استمرأ هياكل مرفوضة، من أجل ضمان نجاحها فى إجراء تغيير مناسب مع ما تبنته من أهداف: حدث هذا فى 23 يوليو 1952 وفى 25 يناير 2011 وفى 30 يونيو 2013.

وإذا كانت ثورة يوليو قد بادرت بقرارات وفرت عددا من الشروط الضرورية لتغيير قواعد البنيان الاقتصادى، فإن التيارات الفكرية السائدة بين الاقتصاديين الذين تلقوا معارفهم فى معاهد غربية، ركزت على الدور المحورى لعنصر رأس المال الذى يلعب الدور الأساسى فى الدول الصناعية، ويحتاج تعزيزه لاستثمارات يعوض بعضها ما تقادم منه أو تهالك، ويضيف الجانب الأكبر منها طاقات جديدة توسع رقعة الإنتاج وتولد المزيد من فرص العمل. وتعتمد فى ذلك على ما تزوده بها المدخرات الوطنية التى تقتطع من دخل استوفى أصحابه منه حاجاتهم من طيبات الاستهلاك وإلا جرى استدعاء استثمارات أجنبية تتضاءل الحاجة إليها مع تواصل التنمية. وفات هؤلاء أن هذا التسلسل يقتضى أن يكون المجتمع قد اجتاز مرحلة الانتقال من اقتصاد راكد إلى آخر ناهض. بالمقابل فإن التيارات اليسارية التى استلهمت فكرها من التجارب الماركسية اللينينية اتهمت حركة الجيش بأنها أحبطت قيام ثورة شعبية تعيد تركيب المجتمع بشقيه الاجتماعى والسياسى، متجاهلة أن تأهل المجتمع لتطبيق الشيوعية يتوقف على تجاوز الرأسمالية فيه مستوى يتيح لجميع ناشطيه اكتساب قدر من المعارف حول تسيير المجتمع يمكنهم من المشاركة فى توجيه الاقتصاد وفق تخطيط وظيفى، حتى لا يتوقف الأمر عند نقل ملكية رأس المال من أيدى قلة متحكمة، إلى دولة تنوب عن الشعب بأكمله ليتحول الأمر إلى رأسمالية دولة.

•••

الأمر الثانى أن التخطيط الوظيفى الذى تم الانتقال إليه قام على أساس الاقتصار على تحقيق ما حددته له القيادة السياسية من أهداف مستمدة من غايات عامة تفاهمت على تحقيقها مع التنظيمات الشعبية من خلال تحاور سياسى مستمر وتجميع ونشر بيانات تضىء الطريق أمام اختيارات يجرى التوافق حولها. ومن ثم كان على جهاز التخطيط أن يعد تقارير متابعة عن تنفيذ الخطة ليصحح انحرافات مسار التنفيذ ويضىء الطريق أمام الوحدات المشاركة فيه. بينما كانت كل من القيادة السياسية والمؤسسات النيابية بحاجة إلى التعرف على مدى تقدم الدولة نحو تحقيق غاياتها وإجراء تقييم لأداء الوحدات المختلفة للمهام التى عهدت بها إليها. ومن أجل ذلك تقرر فى 1964 تطوير ديوان المحاسبة المكلف بمراقبة مدى التزام الجهاز الإدارى بقواعد وإجراءات محددة ونزاهة التصرف فى بنود الموازنة العامة، ليصبح جهازا مركزيا للمحاسبات. فأضيفت إليه ثلاث إدارات مركزية، واحدة تعنى بالرقابة على التصرف فى الباب الثالث للموازنة المخصص للاستثمار، والثانية لمتابعة تنفيذ الخطة وتقييم الأداء، والثالثة للبحوث والعمليات بغرض التعمق فى دراسة القضايا التى تتكشف عنها المتابعة وإجراء العمليات اللازمة لتلافيها ورفع قدرات الذين يتولون أمور التنفيذ وفق فلسفة الإدارة بالأهداف.

•••

الأمر الثالث أن المجموعة التى أعدت تفاصيل الخطة من بين المجموعات التى ضمتها لجنة التخطيط القومى والتى تباينت أساليبها كما أشرنا فى المقال الأول، اعتمدت أسلوب موازين المصادر والاستخدامات الفرنسى، وهو الأقرب لخلفية أعضائها كاقتصاديين زراعيين برئاسة د. محمود الشافعى، وامتد تأثيرها فى ظل د. سيد جاب الله، ثم مؤخرا د. كمال الجنزورى. وقد استفادت تلك المجموعة من اقتصار إستراتيجية التنمية على هدف إستراتيجى وحيد هو معدل للنمو يحقق مضاعفة الدخل فى عشر سنين. وبذلك لم يكن هناك حوار جاد يكفل المواءمة بين الاستراتيجية العامة للدولة واستراتيجية تنمية تحدد مراحلها وأساليب إعداد الخطة، والمشاركة المتكافئة بين المؤسسات المسئولة عن توجيه الأمور السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ومع ذلك لم يكن هذا مبررا كافيا لما ظهر من مآخذ كان يمكن تلافيها.

•••

ورغم إعداد كتاب الخطة الخمسية الثانية وبيان رئيس الوزراء ووزير التخطيط السيد/على صبرى حولها بمعاونة د. محمد لبيب شقير، فقد أظهرت التقارير الأولية لجهاز المحاسبات الحاجة إلى وقفة جادة لتلافى ما يمكن أن يقود إلى تعميق الفجوة بين الغايات التى تبنتها الثورة والمسار الذى تنساق إليه عملية التنمية. لذلك تقرر تولى السيد/ زكريا محيى الدين رئاسة الوزارة تاركا رئاسة الجهاز للسيد/ حسين الشافعى. وكان أول قرار أصدره تشكيل مكتب فنى وعهد إلىّ برئاسته بحكم مسئوليتى عن الإدارة المركزية لمتابعة تنفيذ الخطة وتقييم الأداء، لمعاونته فى دراسة التقارير التى تعرض عليه والبت فى الأمور قبل استفحال المشكلات وتحولها إلى سجال بين مجلس الأمة للحكومة. وعقد فى النصف الثانى من أكتوبر مؤتمرين للإنتاج ثم الإدارة.

واستهل بيانه أمام مؤتمر الإنتاج بسرد القضايا التى واجهت الخطة الأولى، وهى النمو السريع فى عدد السكان وحدوث زيادة فى الأجور تفوق الزيادة فى الإنتاج مما أدى لزيادة الاستهلاك وتقليص التصدير وزيادة استيراد السلع الاستهلاكية مما حد من المدخرات اللازمة لتمويل الخطة. ففاقت الزيادة فى الخدمات 170% مما قررته الخطة، بينما اقتصرت للإنتاج السلعى على 67% من المستهدف. وشهدت المواد التموينية زيادات كبيرة وارتفعت معها اعتمادات خفض تكاليف المعيشة من 13.4 مليون جنيه فى سنة 1952 إلى 43.4 مليون فى 64/65، وبدلا من أن ترتفع المدخرات المحلية ظلت بحدود 14% من الدخل القومى. وأكد على ضرورة الحد من الاستهلاك مع العمل فى نفس الوقت على رفع الإنتاجية وربط الأجور بها، واختبار الجودة عن طريق المنافسة بجزء من إنتاجها فى السوق العالمية. ودعا إلى قصر دور الوزراء على التوجيه والإشراف والتنسيق والرقابة والتقييم بالاستعانة بالمؤسسات العامة، مع إطلاق حرية رؤساء الوحدات الإنتاجية فى تنفيذ الأهداف التى تحددها الخطة. وشكل لجنة من مندوبى جميع الأجهزة الإدارية وعهد إليها بإعداد تقارير عن أداء المديرين ينظر فيها مع نواب رئيس الوزراء فى نهاية كل عام لتقدير مدى جدارة كل منهم وفق مؤشرات محددة. وتبع ذلك تغيير فى أسس السياسات الاقتصادية الكلية لتتفق مع هذا التطوير. ودعا مؤتمر الإدارة إلى تولى المشرفين عليه النهوض بكفاءة العاملين فيه وعدم الاكتفاء بفرض عقوبات، ومواصلة السير فى برنامج إصلاح الجهاز الإدارى ليواكب مسئوليات التنمية الشاملة، فى ظل مجتمع الكفاية والكفاءة والعدل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved