...لا تعاقبوا الشعوب

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 17 نوفمبر 2019 - 11:25 م بتوقيت القاهرة

تقوم بلديات فرنسيّة وجمعيات بمساعدة طلاب سوريين من مختلف المناطق كى يستمرّوا فى دراساتهم الجامعيّة. وإحدى الصعوبات الكبرى هى فتح حسابات مصرفيّة لهم، وهو شىء إلزامى فى فرنسا. وذنبهم فقط أنّهم سوريّون. كذلك تعانى مختلف الجمعيّات الدوليّة كما تلك التى يقوم عليها سوريّون فى تحويل المساعدات الماليّة إلى سوريا. وكذلك حتّى منظّمات الأمم المتّحدة المختلفة للإغاثة والمعونة. حتّى لو حصلت على موافقة الجهات الرقابيّة فى الولايات المتّحدة. ولا يمكن استيراد حتّى المواد المسموح بها فى ظلّ العقوبات الأمريكيّة والأوروبيّة على سوريا لأنّ لا مصرف غربيا يريد أن يكون هو البنك المراسل لهذه العمليّة التجاريّة.
فُرِضَت العقوبات الماليّة العامّة على سوريا، على مصرفها المركزى كما على مصارفها الحكوميّة، أشهرا قبل أن تبدأ على أفرادٍ معيّنين متّهمين بالقمع أو الفساد. وجاء أثرها مع استمرارها طويلا أبعد بكثير من نصّها الحرفى. إذ لا تريد المصارف الغربيّة المراسلة أن تخاطر بأى عمليّة ماليّة لها علاقة مع سوريا، مهما كانت المنطقة المعنيّة، تخوّفا من عقوبات أمريكيّة، غالبة اعتباطيّة، قد تفرض عليها. كما أنّ كلفة تدقيق فتح الحسابات والتأكّد من سلامة العمليّة كبيرة ضمن المعايير التى تفرضها العقوبات كبيرة لا تستحقّ العمولة التى تؤخذ من العميل.
هكذا بات السوريّون كأفرادٍ وشركات، وكذلك منظّمات الإغاثة وحتّى الأمم المتّحدة، يستخدمون جميعهم دول جوار سوريا لتأمين تمويل المعونات الماليّة وكذلك لاستيراد أغلب المعونات العينيّة. كلّ ذلك من جرّاء الآثار غير المباشرة للعقوبات، ما يطلق عليه الغربيّون لطافةً تعبير over compliance «الالتزام الزائد عن اللزوم»(!).
المستفيد الأكبر من هذا الوضع هو شركات الصرافة والحوالات التى تأخذ قسطا ملحوظا من هذه التحويلات، لا يصل إلى الذين يجب أن يستفيدوا منها. أو بالأحرى من يقوم بنقل الأموال ــ وكذلك البضائع ــ على الخطوط التى بقيت إلى حدٍّ ما مفتوحة بين دول الجوار والداخل السورى.
***
أوّل هذه الخطوط مصدره تركيا، التى ما زالت صادراتها إلى سوريا بقيمة تلك التى كانت ما قبل نشوب الصراع. المستفيد الحقيقى منها هى «فتح الشام» (النصرة سابقا) التى تسيطر على المعبر الحدودى الأنشط، أى باب الهوى. وثانيها يأتى من كردستان العراق. وثالثها من لبنان الذى دخل مؤّخرًا فى أزمته الماليّة الخانقة.
أغلقت المصارف اللبنانيّة أبوابها عند اندلاع الأزمة الماليّة، ونضوب القطع الأجنبى، وتوقّفت العمليّات الماليّة مع الخارج حتّى لاستيراد الطحين والبنزين ومعظم المواد الاستهلاكيّة فى حين لا يُنتِج لبنان سوى القليل من هذا الاستهلاك. وحتّى لو تشكّلت الحكومة وأُعيد فتح المصارف قريبا لن يتمّ السماح للبنانييّن وشركاتهم بتحويل القطع الأجنبى إلى الخارج إلاّ بالقطّارة ولمدّة طويلة. كما أعلن ذلك واضحا حاكم مصرف لبنان. بالنتيجة سيدخل اللبنانيّون فى حالة تقشّف ستستمرّ طويلا.
لقد أدّى إغلاق المصارف اللبنانيّة إلى وضعٍ خانق فى سوريا. إذ ارتفع سعر صرف الدولار بشكلٍ غير مسبوق. كما بدأت المواد تنفد من بعض الأسواق. كما فى لبنان. إلاّ أنّ استيراد سوريا ليس من الكماليّات بل موادّ أساسيّة، والأوضاع المعيشيّة فى مناطق كثيرة مزريّة. وما هو تقشّفٌ فى لبنان سيكون كارثة فى سوريا.
صحيحٌ أنّ سوريا بلدٌ زراعى لكن أرضه الحمراء لا يمكن ريّها إلاّ بمضخّات تستخدم الوقود.
حتّى لو عادت المصارف اللبنانيّة للعمل ضمن إطار تقشّفى، فلن يمكن لا للسوريين الأفراد ولا لشركاتهم ولا للمنظّمات الخيريّة ولا للأمم المتحدة من تحويل أموالٍ تستلمها أو مودعة فى النظام المصرفى اللبنانى عبر الصرّافين إلى سوريا. ما يعنى أنّ الأزمة المعيشيّة فى سوريا قد تتفاقم أكثر.
سبيل كردستان العراق أضحى أيضا متأزّما لما يشهده العراق من حالة توتّر ولما تفرضه القوّات الأمريكيّة من سيطرة، وليس فقط على النفط السورى. هكذا لن يبقى سوى سبيل باب الهوى والتحويلات والاستيراد عبر «فتح الشام».
فهل هذا ما تريده حقّا الإدارة الأمريكيّة ودول الاتحاد الأوروبى؟
***
لم تُسقِط العقوبات الاقتصاديّة والماليّة يوما سلطةً حاكمة. وإنّما أخذت بلادا بأكملها إلى جحيمٍ اجتماعى ومعيشى لا ينتهى حتّى لو زالت السلطة الحاكمة. ومثال العراق فى ظلّ العقوبات التى فرضت عليه ماثلٌ أمام الملأ، سواءً فى آثاره قبل الغزو الأمريكى أو فيما أدّى إليه من تفكّك اجتماعى وتفسّخ للدولة شكّل الأرضيّة لنشوء داعش وعبثها.
لقد أسقطت العقوبات مجتمعات ونشرت ضمنها الفساد وجعلت أوطانا رهينةً للقوى والمصالح.
فبالله عليكم عاقبوا من شئتم من المجرمين والفاسدين... لكن لا تعاقبوا الشعوب.

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved