اضطراب وغضب من قارة إلى قارة

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 17 نوفمبر 2019 - 1:45 ص بتوقيت القاهرة

فى شهرى أكتوبر الماضى ونوفمبر الجارى وقبلهما من شهور، شهدت بلدان عديدة من العام النامى احتجاجات شعبية واضطرابات تجمعت، لدى حشود المواطنين المشتركين فيها، «عناقيد الغضب» الذى كان دفينا ثم تصاعد وألقى حممه كما البراكين. الاحتجاجات هذه تبدو وكأنها حلقات من حركة سخط عالمية أوسع.

بين بلداننا العربية انفجر الغضب فى العراق ومن بعده لبنان، وهو مستمر منذ الربيع الماضى فى الجزائر. السودان نجحت حركة الاحتجاج المطالبة بالديمقراطية فيه فى الوصول إلى المشاركة فى الحكم بشكل يعتد به، يسمح لها بفتح قنوات تستطيع من خلالها التعامل أثناء الفترة الانتقالية مع مسائل معلقة عديدة وأولها انضمام الحركات الغائبة عنه إلى اتفاق تقاسم السلطة بين القوات المسلحة السودانية وحركة الحرية والتغيير، فضلا عن علاج تبعات ثلاثين عاما من الحكم التعسفى الردىء للرئيس السابق وشركائه.

السودان والجزائر حالتان من الغضب أصبحتا معروفتين و«قديمتين». «قديمة» أيضا تظاهرات هونج كونج المستمرة منذ شهور وهى التى توسع من جبهة الاحتجاجات حتى شرقى آسيا. مثلها فى «القدم» احتجاجات فنزويلا، وإن كانت أسبابها كما الأسباب فى هونج كونج مختلفة عن الحالات الأخرى. العالم المتقدم لم يخل هو الآخر من احتجاجات اتخذت أشكالا عنيفة والمثال عليها حركة السترات الصفراء فى فرنسا التى امتدت لشهور وشهور. غير أن اهتمامنا اليوم هو بما جدّ من احتجاجات فى الشهرين الحالى والماضى، من العراق إلى لبنان ومنهما إلى إكوادور وشيلى وبوليفيا فى أمريكا الجنوبية. حجتنا فى هذا المقال هى أنه رغم التباعد الجغرافى وخصوصية كل حالة فإن ثمة ما يجمعها فى حركة السخط العالمية غير المخطط ولا المبيّت لها. ما يجمع هذه الحالات هو الغضب على الحكام وعلى آليات الحكم التى لا تصدر عنها سياسات تعالج أسباب الغضب الكامن فى الصدور. وهو غضب على اللامساواة المتنامية وعلى تركز الدخل والثروة فى مجموعات تصغر عضويتها باستمرار قياسا بمجموع المواطنين، بينما تنكمش مجموعات الدخل المتوسط وتنمو صفوف مجموعات الدخل المنخفض وتزداد أعداد الفقراء ونسبهم فى شعوب البلدان المختلفة. إضافةً إلى اللامساواة، الاحتجاج أيضا على تدهور الخدمات العامة وتناقصها نتيجة للسياسات المالية المقترة عليها والتى أدت فى بعض الأحيان إلى خصخصة هذه الخدمات فارتفعت أسعارها ومع ذلك تدهور مستواها. وأخيرا، الاحتجاجات أيضا على حالة التشغيل، فإما البطالة منتشرة خاصة بين الشباب والمتعلمين منهم خصوصا، وإما فرص العمل مؤقتة وبأجور منخفضة وبلا حماية اجتماعية. اللامساواة وتدهور الخدمات وحالة التشغيل هى من نتائج السياسات الاقتصادية النيوليبرالية سواء كان كل المشاركين فى الاحتجاجات واعين بذلك أو لا. نردف أن النتائج المذكورة للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية ليست وقفا على البلدان النامية، بل هى وصلت إلى البلدان المتقدمة، والبينات على ذلك ليست فقط فى أصحاب السترات الصفراء الفرنسيين المشار إليهم أعلاه، وإنما كذلك فى تصويت ضحايا السياسات الاقتصادية النيوليبرالية للخروج من الاتحاد الأوروبى فى بريطانيا، بل وفى تضخم صفوف الناخبين المصوتين لأقصى اليمين المتطرف مثلما حدث فى إيطاليا وفرنسا. مسألة المهاجرين يعلو صوت أقصى اليمين بشأنها، والمهاجرون يستخدمون بنجاح حتى الآن فى إخافة الشعوب على «هوياتها» وعلى مستويات معيشتها وكأنما المهاجرون هم المسئولون عن اللامساواة وعن تراجع مستويات معيشة الطبقات الشعبية. يلاحظ أنه فى الوقت الذى لا يكف أقصى اليمين فيه عن التنديد بالهجرة والمهاجرين، على الرغم من أن كل الدراسات تبيّن أنه لا أثر للمهاجرين لا على مستويات التشغيل ولا على الأجور، فإن أقصى اليمين لا ينبس بكلمة عن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية ومسئوليتها عن تدهور أحوال ناخبيه الجدد. قضية الهجرة تستخدم للتعمية على آثار السياسات الاقتصادية التى لا يعترض عليها أقصى اليمين بل هى توافق هواه وهوى أغلب المجموعات الحاكمة فى البلدان النامية.

***
نظراا لأن المساحة التى تفسحها «الشروق» مشكورةً للمقال محدودة فإننا سنستعرض مجرد الخطوط العريضة لأسباب حركات الاحتجاج والغضب فى العراق ولبنان وإكوادور وشيلى وأشكال هذا الاحتجاج. الاستعراض سيبيّن خصوصية كل حالة ولكن كذلك ما يجمعها. أما بوليفيا، فسنشير إلى ما مرت به فى الأسبوع الماضى وهو عكس الحالات الأربع الأولى.

فى العراق الاحتجاجات خاصةً فى وسطه وجنوبه كانت على 16 عاما من تدهور الخدمات العامة والبطالة وعلى ما اعتبره المحتجون فساد الطبقة الحاكمة، وهى سرعان ما تطورت إلى الدعوة إلى سقوط النظام السياسى الذى وضع أحجاره الأساسية الاحتلال الأمريكى وإلى التنديد بالنفوذ الإيرانى. عطل المحتجون العمل فى ميناء أم القصر وتحولت الاحتجاجات إلى العنف المتبادل مع الحكومة حتى سقط مئات القتلى. الاحتجاجات العراقية لم تصطبغ بأى شكل طائفى، فهى لم تكن من أبناء طائفة ضد أفراد طائفة أخرى. المحتجون كانوا من شيعة العراق المركزين فى جنوبه، المصدر الأكبر للثروة النفطية فيه، ضد حكومة رئيس وزرائها شيعى ونظام سياسى يسيطر عليه الشيعة. الانتماء إلى طائفة واحدة لم يكن شفيعا لأصحاب السلطة ولم يمنع المحتجون من أن يطالبوا بإسقاطها. لعل احتجاجات العراق تكون بينة على أن الطائفية غير متجذرة فيه وأنها ليست قدرا لا فكاك منه فى بلداننا العربية.

***
فى لبنان، كان اقتراح فرض ضريبة على المكالمات الهاتفية عبر تطبيق «واتساب» كفيلا بإخراج مئات الألوف، بل ما فوق المليون أى ربع اللبنانيين، إلى ساحات بيروت وطرابلس وصيدا وغيرها. طالب المحتجون بأن يرحل السياسيون كلهم، واعتبروهم «لصوصا» راكموا الثروات خلال الثلاثين عاما الماضية منذ انتهاء الحرب الأهلية، فى الوقت الذى كانوا يعانون هم فيه من انخفاض الدخول وعجزها عن تلبية الاحتياجات المعيشية، ومن تدهور الخدمات، خاصة الكهرباء المنقطعة ساعات طويلة يوميا لعشرات السنين. وندد المحتجون بالمحسوبية، وشكا الشباب، وخصوصا المتعلمين منهم، من انعدام فرص العمل التى تضطرهم للهجرة بحثا عن سبل الحياة. «نريد أن نتعلم وأن نعمل هنا فى بلدنا وهى أولى بنا «قالت الشابات والشبان اللبنانيون. فى الساحات، فى ساعات الغضب المستعر، اختلط أبناء الطوائف اللبنانية العديدة وكانت مطالبهم واحدة. فى لبنان يمكن القول بأن الطائفية ترسخت لعشرات السنين ولكن الاحتجاجات تبيّن أنه يمكن التغلب عليها بالعمل الصبور طويل الأجل والمتضامن للشباب من كل الطوائف، خاصة إذا جاء هؤلاء الشباب بتصور بديل للنظام الاجتماعى والسياسى يحفظ للبنانيين، ومعهم العرب، الحرية على أرض لبنان، ويوظف مواهب اللبنانيين لوضع سياسات رشيدة وتطبيقها. الطائفية حائل دون السياسات الرشيدة.

***
فيما وراء الأطلسى، على سواحل المحيط الهادى، فى إكوادور، اندلعت الاحتجاجات عندما أعلنت الحكومة إلغاء دعم المحروقات السائد منذ أربعين عاما، ضمن إجراءات سياسة تقشفية كانت شرطا للحصول على قرض بمقدار 4,2 مليار دولار من صندوق النقد الدولى. ارتفع سعر البنزين بنسبة 24 فى المائة وسعر الديزل بنسبة 120 فى المائة، فعمّت الاضطرابات وسقط القتلى ونزلت على العاصمة كيتو حشود السكان الأصليين المنظمين، وهم المميّز ضدهم تاريخيا، حتى أعلنت حكومة الرئيس لينين مورينو، المنتخب فى سنة 2017، رجوعها فى قرار إلغاء دعم المحروقات. غضب الإكوادوريين كان على إجراء من صميم السياسات النيوليبرالية. يلاحظ أن الاحتجاجات والاضطرابات قد توقفت بمجرد الإعلان عن قرار إلغاء الدعم. يفسّر ذلك بأنه يرجع إلى أن أسباب الغضب ليست عامة حيث اتخذت حكومات الرئيس السابق رافاييل كوريا سياسات توزيعية وإعادة توزيعية بهدف الحدّ من اللامساواة ولتحقيق العدالة الاجتماعية. النيوليبرالية مستجدة فى إكوادور.

***
مثلما الحالة فى كل من لبنان وإكوادور، انفجرت الاحتجاجات عارمةً فى شيلى، البلد ذو مستويات المعيشة الأعلى فى أمريكا اللاتينية، عندما أعلنت حكومة الرئيس اليمينى سباستيان بينييرا عن رفع سعر تذكرة مترو الأنفاق بمجرد 30 بيسو، وهى العملة الوطنية، بما يساوى 4 سنتات من الدولار الأمريكى أو ستين قرشا مصريا. هنا أيضا عمت الاضطرابات وسقط ما يربو على العشرين قتيلا وتفجر الغضب ولم يهدأ حتى عندما أعلنت الحكومة رجوعها فى قرار رفع سعر تذكرة المترو. المحتجون هتفوا بأن المسألة ليست 30 بيسو وإنما ثلاثين عاما. فى هذا تذكير بأسباب الاحتجاجات فى لبنان. الثلاثون عاما المقصودة هى تلك المنقضية منذ نشأة النظام السياسى الحالى الذى خلف النظام السلطوى والقمعى للجنرال أوجوستو بينوشيه، وهو النظام النموذج للأخذ بالسياسات النيوليبرالية لمدرسة شيكاجو. تاريخ السياسات الاقتصادية يميّز شيلى عن إكوادور. اتخذت الرئيسة السابقة ميشيل باشليه، خاصةً فى فترة رئاستها الأولى، سياسات اجتماعية تحد من اللامساواة الناتجة عن السياسات النيوليبرالية، ولكن الرئيس بينييرا عمل على تفكيكها فى السنتين الأخيرتين. انسدّت الآفاق وتلاشت إمكانيات الصعود الاجتماعى أمام الشباب خاصة، فى الوقت الذى تركزت فيه الامتيازات والدخول فى أقلية صغيرة تتوارثها، فكان الغضب الهائل. مع التسليم بالفوارق بين البلدين، أليس فى حالة شيلى أوجه شبه بما خبره لبنان؟

***
بوليفيا هى عكس حالات العراق ولبنان وشيلى. منذ سنة 2006، عمل أول رئيس لها من بين السكان الأصليين، الذين يقدرون بثلثى السكان، على اتخاذ سياسات اقتصادية واجتماعية توزيعية وإعادة توزيعية تنصفهم، سياسات هى النقيض للنيوليبرالية، فانخفض مثلا معدل الفقر وارتفع توقع العمر عند الولادة وانقضت الأمية وتعزز وجود السكان الأصليين فى النظام السياسى. أثار ذلك حفيظة الطبقات المميزة تاريخيا، المعتادة على الحكم وإن تعاركت باستمرار فيما بينها، فاستقوت بمنظمة الدول الأمريكية، ومن ورائها على ما يبدو الولايات المتحدة، فأطاحوا بالرئيس إيفو مورالِس بدعوى التلاعب بنتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة التى كان قد فاز فيها من أول دور متفوقاا على منافسه، وهو رئيس سابق، بأكثر من 10 فى المائة من الأصوات. احتج أنصار الرئيس مورالِس على خلعه وأضربوا، ولكنه هو نفسه دعاهم من المكسيك، التى فضلها على الأرجنتين منفى، إلى استئناف أعمالهم خدمةً للشعب جميعً. يبقى الانتظار لنرى إن كانت العودة إلى ما قبل مورالِس سيصحبها أخذ بالسياسات الاقتصادية النيوليبرالية.

النيوليبرالية منبع للاضطرابات وعدم الاستقرار، وعنها، فى مقال أخير، يقول الاقتصادى الأمريكى جوزيف ستيجليتز، الذى لا يمكن وسمه بالاشتراكية أو بالانتماء إلى اليسار، أنها ستقوض الديمقراطية بل ويذهب إلى أنها ستدمر الحضارة. لا يمكن بناء نظام ديمقراطى مستدام، فى بنيته وفى سياساته، فى ظل اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية.

إن أضيفت اللامساواة والآفاق المنسدة إلى البنى الاجتماعية المختلة فى البلدان النامية، لأسباب طائفية أو طبقية أو عرقية، وهو ما استعرضناه فى الفقرات السابقة، ندرك أوجه التشابه بين حركات الاحتجاج والغضب والاضطرابات التى انتشرت من قارة إلى قارة فى الشهرين الأخيرين.
العلاج فى سياسات اقتصادية عالمية عادلة جديدة وفى تآلف الداعين إليها هنا وهناك، فضلا عن التعامل فى كل بلد مع آفة الخلل فى بنيته الاجتماعية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved