سوريا والتعافى السياسى

مصطفى الفقي
مصطفى الفقي

آخر تحديث: الإثنين 17 نوفمبر 2025 - 6:50 م بتوقيت القاهرة

أسمع أحيانًا انتقادات حادة لنظام الرئيس السورى الجديد أحمد الشرع خصوصًا ما يتصل منها بما جرى فى السويداء ومع الدروز وما حدث فى اللاذقية والساحل السورى ومع الأكراد ودعم بعض الأطراف فى الصدامات الطائفية، وأشفق على النظام الجديد فى دولة عريقة قوميًا مؤثرة سياسيًا تواجه العديد من العواصف والأنواء بعد فترة قصيرة من سقوط نظام آل الأسد حافظ وبشار، وكل ما ارتبط بتلك الفترة من جمودٍ سياسى وعزلة حقيقية وتشرذم بالمعنى الكامل للكلمة بين الطوائف الدينية والكيانات العرقية التى مزقت ذلك القطر العزيز على الأمتين العربية والإسلامية، ولأنى أنظر إلى دمشق باعتبارها بداية عز الشرق، كما قال عنها أمير الشعراء أحمد شوقى، فإننى كنت دائمًا منحازًا بالضرورة للشعب السورى وتراثه الطويل وثقافته المؤثرة، التى شكلت وجدان فيروز اللبنانية لتكون صوتًا عربيًا ساحرًا من الإذاعة السورية منذ مطلع خمسينيات هذا القرن وهى تصدح بصوتها الملائكى تنادى من لبنان على سوريا ركيزة الشام الكبير وعاصمة الأمويين، وبرغم أننى أعترف بوضوح أن مصريتى ضاربة فى جذور التاريخ بامتداد حضارى عاش العالم أحد مشاهده مؤخرًا مع افتتاح المتحف المصرى الكبير، إلا أننى أدرك أن الدولة العربية الحديثة هى سورية البنيان منذ تولى معاوية بن أبى سفيان وضع اللبنات الأولى لحكم ذلك القطر العربى الجامح الذى تراكمت فوقه الثقافات وترسبت فى أعماقه الحضارات فأصبح كيانًا متميزًا، فالمزاج السورى هو صوت دمشق ولحنها المفضل خصوصًا عندما كنّا نقرأ ونحن أطفال عن النضال الوطنى السورى بقيادة سلطان باشا الأطرش لتحرير بلاده من الوجود الأجنبى وكانت المواجهة سورية شاملة وليست درزية طائفية، فما أشبه الليلة بالبارحة رغم تغيّر الظروف وتحول الكيانات وظهور قوى اجتماعية جديدة تشكل فى جوهرها شخصية سوريا الحديثة.
لقد تدفقت مياه كثيرة عبر الأنهار وعرفت سوريا لحظات شديدة الأسى والحزن ولحظات أخرى رفعت فيها رايات العزة وألوية النصر، ونحن نتذكر اليوم أن قيادات الجيش العربى السورى هى التى فرضت على عبد الناصر الدخول فى وحدة اندماجية سريعة إيمانًا من أبناء الشام بأن مصر ركيزة عربية كبرى وأن ثقافة أدباء الشام ومفكريه قد لعبت دورًا حاسمًا فى تكوين العقلية المصرية التى صاغها طه حسين لغة وفكرًا، وتأثر بها واضعو اللبنات الأولى للثقافة العربية الحديثة من الشعراء والأدباء والمفكرين، لذلك لم يكن غريبًا أن تمضى العلاقات المصرية السورية دائمًا فى تناغم وانسجام، وقد استقبل المصريون أشقاءهم السوريين فى سنوات اللجوء والنزوح من وطنهم العريق بفعل الاضطرابات السياسية والضغوط التى عانى منها أبناء ذلك البلد العربى الذى تأسست فيه أول خلافة إسلامية، وقد استقبل الجميع وصول أحمد الشرع ورفاقه إلى سدة الحكم استقبالاً حسنًا مقارنة بما مضى وأملاً فى التغيير القادم، وتعاطف المصريون مثل بقية الشعوب العربية والإسلامية مع المعاناة السورية فى العقود الأخيرة، واستقبلت الدول العربية أبناء سوريا فى تلك السنوات العجاف واعتبروهم دائمًا إضافة إلى عالم المهارة الحرفية والذكاء التجارى والقدرة على مواجهة التحديات، وعندما دخل أحمد الشرع البيت الأبيض شعرت ــ رغم كل المحاذير والاحتمالات ــ بأن الشعب السورى يتقدم الصفوف ويعيد بناء بلده فى كبرياء وشموخ رغم سنوات التعذيب والاضطهاد والمعاناة التى لم نكن ندرك حجمها إلا بعد سقوط النظام السابق، وأتأمل الآن لقطة تليفزيونية شاعت وانتشرت للرئيس السورى الشرع وهو يلعب «ماتش» كرة سلة تعبيرًا عن بداية «شهر العسل» بين دمشق وواشنطن والغرب عمومًا، ولعلى أطرح الآن بعضًا من التحديات التى تواجه ذلك النظام الذى انقسمت حوله الآراء بين مؤيد على الإطلاق وبين من يقبل فى تردد خشية محاذير عديدة وتحديات قائمة ما زالت تحيط بذلك القطر الهام الذى قيلت فيه العبارة السياسية الخالدة (إذا كانت لا تحدث حرب كبرى فى غياب مصر فإن السلام على الجانب الآخر لا يتحقق بدون سوريا)، ويمكن أن نوجز هذه التحديات بشكل عام فى الاحتمالات التالية:
أولاً: يجب أن نعلم جيدًا أن إسرائيل لن تقبل بدولة سورية مستقرة وسوف تسعى إلى تعويق مسيرتها وتعطيل حركتها، وذلك مع أطماعها المعلنة باقتطاع أجزاء من أرضها حتى تلك التى تحددت باتفاقية 1974 لفك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل، إذ إن للدولة الصهيونية أطماعا مزدوجة فى الأراضى السورية خصوصًا فى مرتفعات الجولان، فضلاً عن مخطط كامل لإحداث القلاقل بين الطوائف السورية المختلفة خدمة لإسرائيل ومحاولة لتمزيق النسيج السورى والنيل من تماسكه، كما تسعى إسرائيل إلى دق إسفين دائم فى علاقات دمشق بكل من موسكو وطهران وأنقرة على اعتبار أن ذلك يعطل المسيرة السورية الجديدة ويثير الغموض حول رؤية دمشق للمستقبل.
ثانيًا: يتطلع النظام السورى الجديد إلى إقامة علاقات ثابتة بل وثيقة مع واشنطن بعد توتر وصعود وهبوط عبر العقود الماضية، وأظن أحيانًا أن الشرع يحاكى بدرجة ما أسلوب الرئيس المصرى الراحل أنور السادات الذى انتقل بمصر فى اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية إلى ما يقرب من مائة وثمانين درجة لكى تصبح دولة صديقة بعد طول عناء، ولقد تعلم الشرع من تاريخه الشخصى أن هناك مرحلة قد يندم عليها المرء ولكنه يستطيع أن يبرأ منها ويحقق بغسيل الأشخاص ما حققه الكثيرون بغسيل الأموال، فالمرء ليس بالضرورة أسيرًا لماضيه بقدر ما هو ابن لمستقبله، ولذلك فإننى أدعو إلى التعامل مع النظام السورى الجديد من منطق ما يفعل وليس بالحكم على ما فعل بعض أفراده من قبل، ولاشك أن ترميم العلاقات التركية السورية هو إنجاز بارز للنظام الجديد فى دمشق كما أن إدارته للصراع حوله تنم عن ذكاء وحنكة وشىء من الرصانة شريطة ألا تتخلى سوريا عن التزاماتها القومية وشعاراتها العربية ومسئولياتها فى الصراع العربى الإسرائيلى.
ثالثًا: إن الحكم على النظام السورى الجديد سوف يتأكد فى المستقبل القريب من خلال إقدام دمشق على إقامة علاقات معينة مع إسرائيل قد تضمها إلى مجموعة السلام الإبراهيمى وقد تضعها فى موقع محايد يتلاءم مع عروبة الشعب السورى ومشاعره القومية، ولن تسلم سوريا أبدًا من التحرشات الإسرائيلية فى كل الحالات، فهى لا تريد لها أن تكون قوة سياسية مؤثرة أو كيانًا عربيًا فاعلاً بل تأمل دائمًا أن تراها منقسمة على نفسها تعيش صراعات لا تنتهى حتى تحصد إسرائيل ما تريد.
رابعًا: إن السياسة المتوازنة التى يمضى بها الشرع تبعث على التفاؤل فهو لا يجنح فى اتجاهٍ ضد الآخر، ولكنه يحتاج بالطبع فى هذا الوقت إلى تكثيف العلاقات مع واشنطن ليس لرفع العقوبات عنه وعن بلاده فحسب ولكن أيضًا لتأمين العلاقات مع تل أبيب خصوصًا فى الفترة التى لم يقف فيها الجيش السورى بقواه الكاملة وقدراته المنتظرة وإن كنا نخشى أن تقع دمشق فى محظور الخلافات العربية أو أن تفتح خلافًا مع دولة عربية كبيرة مثل مصر، إذ إننى ممن يعلنون أن محور القاهرة والرياض ودمشق هو محور أساس فى هذه المرحلة، كما أن العلاقات السورية اللبنانية تظل محورًا حاسمًا له أهميته الخاصة بالنسبة للقطر العربى التوأم لسوريا وهو الدولة اللبنانية الشقيقة بكل ما تمر به من معاناة وما تواجهه من متاعب، فضلاً عن حراس البوابة الشرقية فى العراق وتأكيد وجودها دائمًا ككيان عربى كبير.
هذه قراءة مبكرة فى مسار سوريا وهى تمضى على الأشواك وتفتش بين الأسلاك لعلها تجد طريقًا آمنًا فى ظل المحاذير والأطماع والرياح العاصفة والتحديات الكبرى الواضحة، ولتظل سوريا منارة قومية كما عرفها العرب على امتداد تاريخهم الطويل ودولة متميزة كما أيضًا عرفها العالم كله.
نقلا عن إندبندنت عربية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved