«فيسبوك» وصراع السرديتين الفلسطينية والإسرائيلية
العالم يفكر
آخر تحديث:
الإثنين 17 نوفمبر 2025 - 6:55 م
بتوقيت القاهرة
منذ أن أشار فريدريك هيجل إلى أن الذات لا تنبثق إلا فى مرآة الآخر، وأن الوعى بالذات مشروط بالاعتراف المتبادل، ظلت إشكالية الاعتراف حاضرة فى صور تاريخية مختلفة: من ساحات المدينة، ومنابر السياسة، إلى فضاءات الشبكات الرقمية. فالإنسان، فى جوهره، يسعى إلى تثبيت قيمته عبر علاقة بالآخر تمنحه الاعتراف وتؤكد حضوره. غير أن أشكال هذا الاعتراف لم تعد، فى زمن الشبكات، تقوم على اللقاء المباشر أو الانتماء المؤسسى التقليدى، بل باتت تتكون داخل فضاءات افتراضية تعيد توزيع رموز المكانة والشرعية، حيث يقاس الاعتراف بــ«الإعجابات» و«المتابعات» و«المشاركات».
لكن هذه السيولة لا تعكس حيادا، بل تتحول مباشرة إلى ميدان لصراع السرديات. وتبرز الحالة الفلسطينية - الإسرائيلية بجلاء أن الفضاء الرقمى ليس مجرد انعكاس للواقع، بل هو قوة مولدة له. فحين يحجب محتوى يوثق الانتهاكات فى غزة، أو يزال حساب يروى معاناة الفلسطينيين بدعوى «خرق المعايير»، فى الوقت الذى تترك فيه السرديات الإسرائيلية لتنتشر بلا عوائق، يصبح الاعتراف مرهونا بخوارزميات تمارس سلطة ناعمة. وكأن المنصة لا تكتفى بوظيفتها كوسيط ناقل، بل تتحول إلى فاعل سياسى يرسم حدود الظهور والإقصاء.
المراجعة الخوارزمية
تعتبر وسائط التواصل الاجتماعى من أكثر الشبكات الرقمية توظيفا للذكاء الاصطناعى فى إدارة عملياتها، ومن ضمنها فيسبوك الذى يتجاوز عدد مستخدميه ثلاثة مليارات، ما يجعل من الصعب مراقبته بالطرق التقليدية. وتنبع صعوبة التحكم فى المحتوى من عوامل عدة تشمل الحجم الهائل للمعلومات والفروق الدقيقة فى التعبير البشرى. تقوم المراجعة الخوارزمية على مصنفات تشخيص آلى ترصد النصوص والصور والفيديو، وتولد درجات ثقة تقود إلى إزالة آلية فى الحالات الواضحة أو إحالتها إلى مراجعة بشرية فى حالات أخرى.
فى الحالة الفلسطينية - الإسرائيلية، يظهر الخلل حين تحجب تلقائيا كلمات عربية شائعة فى السردية الفلسطينية مثل «شهيد»، أو «مقاومة»، أو «الاحتلال»، وحتى أسماء أماكن ارتبطت بالذاكرة النضالية مثل «جنين»، «نابلس»، أو «حى الشيخ جراح». بل إن بعض المنشورات التى تتضمن صورا لأطفال ضحايا أو بيوت مهدمة تصنف على أنها «محتوى عنيف»، على الرغم من أنها مجرد توثيق للواقع. فى المقابل، يسمح بتداول مفردات إسرائيلية تحرض على العنف ضد الفلسطينيين مثل «الفئران»، أو «الوحوش»، أو «القضاء على غزة»، أو أسماء عمليات عسكرية مثل «الجرف الصامد» و«حارس الأسوار»، بل وحتى مقاطع فيديو أو صور الجنود وهم يرفعون الأعلام أو يحتفلون فوق أنقاض المبانى المدمرة، من دون أن تعتبر «تمجيدا للعنف». هكذا يتجلى الانحياز المضمر فى التصميم الخوارزمى، حيث يتحول ما يفترض أنه أداة تقنية محايدة إلى فاعل سياسى يعيد توزيع الشرعية الرقمية بشكل غير متكافئ، عبر تعزيز حضور سردية وإقصاء أخرى.
وسبق لمنظمة هيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch) أن خلصت إلى أن الفترة التى تلت 7 أكتوبر 2023 شهدت موجة واسعة من الإزالة والحجب وخفض التوزيع، استهدفت بالأساس المضامين السلمية الداعمة للفلسطينيين. فقد أحصت المنظمة خلال أكتوبر / نوفمبر 2023 أكثر من 1050 حالة، منها 1049 مرتبطة بمحتوى مؤيد للفلسطينيين. وتنوعت الإجراءات بين الإزالة المباشرة والحرمان من الاستئناف، ما يعكس اعتمادا مفرطا على الأتمتة، فضلا عن توسع تطبيق سياسة «المنظمات والأفراد الخطرين». وقد أظهر مجلس الإشراف فى 26 مارس 2024 أن الحظر الشامل على كلمة «شهيد» يؤدى إلى إزالة تعبيرات مشروعة عندما تهمل الدلالة السياقية. وأوصى بإنهاء الحظر الشامل واعتماد مراجعة سياقية أكثر دقة، ما يؤكد أثر التعريفات الفضفاضة فى تقييد الخطاب المحمى قانونيا. إن المراجعة الخوارزمية، بهذا المعنى، ليست أداة محايدة، بل ممارسة سلطوية تعيد توزيع ما يمكن أن يقال، وما لا يمكن أن يقال، وفق منطق يلتقى مع البنيات الثقافية والسياسية المضمنة فى البرمجة نفسها.
المراجعة البشرية
عندما تعجز الخوارزميات عن الحسم، يحال المحتوى إلى فرق من المراجعين البشريين. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة تبدو ضمانة للحياد، إلا أن واقعها مختلف؛ إذ يعمل هؤلاء ضمن أطر تنظيمية تضبطها الشركة، وغالبا ما يخضعون لضغوط ثقافية وسياسية. فقراراتهم لا تعكس دائما قواعد عامة مجردة، بل تميل إلى التكيف مع حساسيات معينة مرتبطة بالمجال الجيوسياسى أو بتوجهات السوق.
وتظهر تقارير عديدة أن المراجعة البشرية على فيسبوك ليست معزولة عن الانحياز المؤسسى، إذ يمنح المحتوى الإسرائيلى أحيانا هامشا أوسع من التسامح، بينما يزال المحتوى الفلسطينى بوتيرة أسرع تحت ذريعة «خرق المعايير». وبذلك، تصبح المراجعة البشرية استمرارا لهيمنة غير متكافئة، حيث تتقاطع قرارات الأفراد العاملين مع البنية الخوارزمية لتنتج نظاما مزدوجا من الرقابة: آلى - بشرى. كما أن اعتماد هذه المراجعات على فرق غالبا ما تعمل فى بيئات بعيدة جغرافيا ولغويا عن سياق المنطقة، يزيد من احتمالات سوء الفهم وتكريس الفجوات. وهذا يفسر، مثلا، تراخى المنصة فى التعامل مع خطاب الكراهية والتحريض عندما يصدر بالعبرية، مقابل صرامة أكبر فى التعامل مع المحتوى العربى. وفى هذا المعنى، لا تختلف المراجعة البشرية عن الخوارزمية إلا فى الدرجة، إذ كلاهما يعيد إنتاج عدم التكافؤ داخل الفضاء العمومى.
إن المراجعة البشرية ليست مجرد إجراء تقنى، بل هى فعل سياسى بامتياز. فهى ترسم، عن قصد أو فى إطار برمجة مؤسسية مسبقة، حدود الشرعية داخل الفضاء العمومى، وتعيد تحديد إمكانات الحضور الرقمى للأفراد والجماعات. ومن ثم تسهم فى إعادة إنتاج علاقات القوة ذاتها التى تميز المجال الواقعى، مؤكدة أن المنصة لا تعمل كوسيط محايد، بل كجزء من منظومة أوسع للهيمنة الرمزية.
التبليغ الجماعى
تتمثل الآلية الثالثة فى التبليغ الجماعى، وهى ممارسة يباشرها المستخدمون أنفسهم عبر تنظيم حملات متزامنة للتبليغ عن محتوى بعينه. وعلى الرغم من أن المنصة تطرح هذا الخيار باعتباره أداة لحماية المجتمع من الإساءة، فإنه يتحول فى الواقع إلى سلاح بيد الجماعات المنظمة. ففى الحالة الفلسطينية - الإسرائيلية، يستخدم التبليغ الجماعى كوسيلة لإقصاء أصوات ناقدة أو روايات مضادة، ما يؤدى إلى تعطيل حسابات أو حجب منشورات، حتى لو لم تخالف فعليا المعايير المعلنة. وفق هذا التصور، يعاد توظيف المشاركة الجماعية - التى يفترض أن تكون تعبيرا عن الديمقراطية الرقمية - لتصبح وسيلة إقصاء جماعى؛ فتتقاطع هذه الممارسة مع الخوارزميات والمراجعة البشرية لتنتج دائرة مغلقة من الإنفاذ تحكمها آليات القوة أكثر مما تحكمها مبادئ الحياد أو المساواة. وهكذا يصبح الفضاء الرقمى امتدادا لصراعات واقعية، حيث تتحول الأدوات التقنية إلى أدوات سياسية تسهم فى إعادة إنتاج علاقات الهيمنة.
من هنا يتضح أن الآليات الثلاث ليست مجرد إجراءات تقنية، بل بنيات سلطة تعيد إنتاج اختلالات قائمة فى المجال الواقعي. فالمراجعة الخوارزمية تظهر كيف تتحول البرمجة إلى سياسة؛ والمراجعة البشرية تكشف انخراط الأفراد فى معايير مؤسسية غير محايدة؛ والتبليغ الجماعى يبرز كيف يمكن للمستخدمين أنفسهم أن يصبحوا أدوات فى صراع السرديات. ومن هنا يمكن القول إن الفضاء الرقمى، وبخاصة فيسبوك، لا يمثل مجرد انعكاس للواقع، بل يشكل امتدادا له بآليات مضاعفة: فهو يعيد إنتاج علاقات القوة القائمة، ويحولها إلى أنماط اعتراف رقمية موزعة على نحو غير متكافئ.
إن هذا الربط بين الآليات الثلاث يكشف أن مسألة الاعتراف فى الشبكات الاجتماعية لم تعد مجرد تبادل رمزى بسيط، بل أصبحت جزءا من بنية سلطوية معقدة. فكل آلية تسهم، بطريقتها، فى إعادة توزيع الشرعية والاعتراف: الخوارزميات تحدد القابلية للظهور، والمراجعات البشرية تضفى طابعا مؤسسيا على قرارات الإقصاء أو السماح، والتبليغات الجماعية تضيف عنصر الضغط الجماهيرى الذى قد يستخدم لتصفية حسابات سياسية أو ثقافية.
وبذلك، فإن هذه الآليات لا تعمل منفصلة، بل تتشابك فى دائرة إنفاذ معقدة تعكس التوتر بين التقنية والسياسة. فهى من جهة تمنح المنصة قدرة هائلة على الضبط والمراقبة، ومن جهة أخرى تكشف حدود الحياد المزعوم، إذ تظهر أن الحياد ذاته هو خطاب يخفى وراءه مصالح مهيمنة. وهنا يصبح السؤال: كيف نعيد قراءة هذه النتائج فى ضوء الأدبيات النظرية التى تناولت سلطة المنصات والفضاءات الرقمية؟ وهل يمكن القول إن ما يحدث على فيسبوك يتطابق مع ما حذر منه المنظرون حول «رأسمالية المراقبة» و«حكومات المنصات»؟
• • •
ترتيبا على ما تقدم، يبدو جليا أن ما كشفه تحليل الآليات الثلاث يلتقى مع هذه الأطروحات فى التأكيد على أن فيسبوك لم يعد وسيطا ناقلا محايدا، بل فاعلا سياسيا - إعلاميا يمتلك أدوات معيارية وخوارزمية وإجرائية لإعادة رسم حدود النقاش العام وشروطه. إن الفضاء الرقمى ليس مجرد انعكاس افتراضى للواقع، بل ساحة فعلية تتقاطع فيها التقنية مع السياسة، والاعتراف مع السلطة، والهويات مع صراع السرديات.
الحبيب استاتى زين الدين
مؤسسة الفكر العربى
النص الأصلى:
https://bitly.cx/SsocC